«ساراماغو» الأدب الملتزم.. يقاوم الخرابِ والتدمير

           

 الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:

الحديث عن الأدب الملتزم، بكافةِ أجناسه، شائق وممتعٌ وتهفو النفس إليه، فقد تلمسُ فيه ملاذاً يخفف أوجاعها، ذلك أنه رسالة إنسانية تهدف إلى رقي المجتمع والغوص في قضاياه، والبحث في مشاكله وهمومه وآلامه، وكذلك نصرة المظلومين في الأرض.

15.jpg

دفعني لقول هذا، قراءتي لكتابِ “الطوف الحجري”، وهو للأديب البرتغالي “جوزيه ساراماغو”، ومن ترجمة وتقديم، الدكتور “طلعت شاهين”. الكتاب الذي دفعني أيضاً وبعد قراءته، للبحث في حياة كاتبه الذي يُعتبر من أبرز الكتاب البرتغاليين، المناصرين للقضايا الإنسانية في العالم.
بحثتُ فوجدت، بأنه نشأ في أسرةٍ فقيرة، من الرعاة الأمّيين، وهو ما منعه من متابعة تعليمه الذي يطمح إليه، للحصول على الجامعة.. ترك هذا أبلغ الأثر في نفسه، ودفعه للاعتماد على ذاته، وللبحثِ والقراءة.
بدأ نشاطه الأدبي، بعد أن أكمل الخامسة والعشرين، وأصدر روايته الأولى “أرض الخطيئة” عام ١٩٤٧م، ورغم أنها لاقت احتفاءً كبيراً من النقاد، إلا أنه توقف عن الكتابة، لشعوره بفراغِ جعبته، وعدم قناعته بشيءٍ يقدمه للقارئ، حتى سن الأربعين، مما دعاه للقول: “لو متُّ في سنِّ الستين من عمري، لم أترك شيئاً ذا قيمةٍ مهمّة للأدب البرتغالي”.
يدلُّ هذا، على أنه كان صادقاً مع نفسه قبل أن يكون صادقاً مع الآخرين، وعلى تمسّكه بقناعاته الأخلاقيّة والأدبيّة والدينيّة، فهو لم يقدم يوماً، أيّ تنازل لا يتماشى مع رؤياه الخاصة للأمور والقضايا التي يراها مهمة، لذلك يعتبر كاتباً ملتزماً بقضايا إنسانية، قبل كلِّ شيء.
يقول “ألبير كامو” رداً على سؤاله، إن كان “ساراماغو” مبدعاً، أم مناضلاً؟: “ليس النضالُ هو الذي يدفعنا إلى أن نكون فنانين، بل الفن هو الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين”.
اعتبرهُ “هارولد بلوم”: “أعظم الروائيين الموجودين على قيدِ الحياة، وجزءٌ مهم ومؤثِّر في تشكيلِ الثقافة العربية، المرجعية الغربيّة الأدبيّة.
أيضاً، أشاد “جيمس وود” باللهجة الفريدة في أعماله، حيث إنه يقصّ رواياته، كما لو أنه شخصٌ حكيم، وجاهل في الوقت نفسه”.. كما تعتبر بعض مؤلفاته، حكمٌ وأمثولات تستعرض أحداثاً تاريخيّة، من وجهة نظره المختلفة، التي تهتم بشكلٍ أساسيّ، بالجانب الإنسانيّ والوجودي، وبالآخرين لكسب حبهم له..
يركّز في أفكاره على ما يحدث حوله، ويرى أنه يعيش أتعس وأحطّ لحظاتِ التاريخ البشريّ اليوم، وقد وصفه بعضهم، بأنه مقاوم دون أي تصنيفٍ آخر، وتبرز مقاومته في أعماله الأدبيّة، التي تخوض غمار الحدث ضد الخراب والتدمير..
ينتمي إلى حزبٍ اشتراكيّ، يرفض أن تكون الرؤية والإحساس عبر الآخرين، بل عبر رؤية الفرد الخاصة، ويبرز هذا جليّاً في روايته “العمى” التي تعالج وتحاكي النزعة الفرديّة، وروايته “كل الأسماء” التي تتناول عالم البيروقراطيّة والرأسمالية، بعد سقوط الاشتراكية الواقعيّة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية.
يراه البعض متشائماً، رغم إعلانه أنه سعيد ومتفائل، ويبيّن أن سبب تناقضه هذا، ما يشهده من أحداثٍ مأساوية، تخلق عجزاً في التفكير، وحرّية التفكير تخلق نوعاً من التوازن العقلي، وصولاً إلى حلولٍ لقضايا الناس والعالم الذي يعيش فيه.
هجر وطنه عام ١٩٩٣، وأقام في إحدى جزر الكناري الإسبانية، وبسبب غضبه من وزارة الثقافة، والكنيسة التي منعت روايته “إنجيل المسيح” من التداول في المؤسّسات والمدارس، إضافة إلى المضايقات التي تلقاها من الحكومة البرتغالية، التي أصدرت أمراً بإزالة هذه الرواية من القائمة القصيرة لجائزة “aristteion prize” بدعوى أنها تسيء للدين.
كلّ هذا، أشعره باليأس، فبقيَ في منفاه حتى نهاية حياته، قائلاً وبسخريته المعتادة، في أول لقاءٍ صحفي له مع وسائل الإعلام:
“ لا أعرف معنى الكلمة التي وصمني الفاتيكان بها، ليعلن عن معارضته لحصولي على جائزة نوبل، لذلك أقول له، عليه أن يتفرّغ لصلاته ويترك الناس تعيش بسلام”.
أما عن انطلاقته الحقيقية نحو الشهرة، فكانت في روايته “مانويل بالرسوم والكتابة”، ولأنها النموذج الحقيقي لرؤيته وأسلوبه الفنيّ، المعبّر عن نظرته الجماليّة التي تبدأ من الخطوط العامة للجماعة، لتنتهي بالفردِ، انطلاقاً من إحساسه بالقضايا العامة للمجتمع، الذي عليه أن يتبناها وبتناولها في كتاباته.
بعدها، جاءت رواية “ثورة الأرض”، وتتناول حياة أسرة ريفيّة، تعيش حالة الثورات خلال فترة الستينيات.. تلتها، رواية “ذكريات الدير” وقد حقّقت انتشاراً عالمياً بسبب ترجمتها لعدّة لغات.. ثمّ روايته “سنة موت ريكاردو رييس”، وتحكي تاريخ العاصمة لشبونة، وتأثيرات الحرب الأهلية البرتغالية على المجتمع.. أيضاً “الطوف الحجري” التي كانت سبب البحث في كلّ هذا، والتي أكّدت اتّساع أفقه إلى خارج حدود الوطن..
كلّ هذا، إضافة إلى كتاب “حصار لشبونة” والعديد من الأعمال التي بلغت نحو عشرين رواية وكتابات شعريّة، مسرحية، دراسات أدبية وتاريخيّة، جعل شهرته تجوب العالم، وجعله أول كاتبٍ برتغاليّ، يحصل على جائزة نوبل.
لقد كان يتقبّل النقد مهما كان جارحاً ولاذعاً، ولكنه لا يتقبّل التشكيك برؤيته للعالم، وللقضايا التي يُعبّر عنها من خلال آرائه، ومن أبرز المواقف النبيلة التي عكست سلوكه الإنسانيّ، ما حدث أثناء زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة، إثر “مجزرة جنين”. المجزرة التي وصفها بالجريمة البشعة بحق الإنسانية، والتي دفعته للقول:
“أفضّل أن أكون ضحيّة كالفلسطينيّين، على أن أنتمي للقتلة بالفعل “الإسرائيليّين”، وللقتلة بالصمت “الغرب وإعلامه”..
كان موقفه هذا، بعد الزيارة التي قام بها مع عددٍ من أعضاء برلمان الكتاب الدولي، إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ليعلنوا رفضهم للممارسات العنصريّة الصهيونيّة، بعد أن راعهم صمتُ الساسة المريب، على كافة النواحي.
دهشُ الجميع سوى الكاتب الإسباني “خوان جويتيسولو”، فقد كانت زيارته الرابعة، وسبقتها زيارات ثلاث مطوّلة، قام بها وأنجز خلالها، العديد من البرامج التلفزيونية التي تدين الاحتلال الاسرائيليّ، وتكشف حرب الإبادة التي تُمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
مما كتبه خلال زياراته، ما ترجمه الدكتور “طلعت شاهين” ونشره بالعربية تحت عنوان “دفاتر العنف المقدس”، وفيه يشرح ما رآه، وما كان يسمعه عن مناطق أخرى، فقد أشار أحدهم من نافذة السيارة التي تقلّهم، لافتاً إياهم إلى بقايا المدن والقرى الفلسطينية التي دمرتها آلة الحرب الاسرائيليّة، من دبابات وجرافاتٍ وطائرات (إف١٦) وحوامات الأباتشي الأميركيّة، بتوجيه من أقمار التجسّس الصناعيّة الأميركية، التي ترصد وتقدّم للصهاينة، كلّ المعلومات المتعلّقة بأي تحرّكٍ فلسطيني على الأرض، إضافة إلى إقامة الحواجز العسكرية بين القرى الفلسطينية، لإذلال الفلسطيني والنيل من كرامته، ومحاولة الحدّ من مقاومته، لهذه القوى غير العادلة، كما وصفها “ساراماغو”..
أمّا مجموعة وفد الكتّاب الثمانية، فيمثلون جنسيات مختلفة، وانتماءاتٍ عرقيّة ودينيّة عديدة، بينهم اثنان من الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: النيجيري “وول سونيكا” والبرتغالي “جوزيه ساراماغو”..
كان “ساراماغو” صامتاً طوال الطريق، يراقب ما يحدث حوله من جرائمٍ، ويضيفه إلى ذاكرته التي شهدت أسوأ ما أبدعته النفس البشرية من تدمير، سواء خلال الحربين العالميتين في أوروبا، أو الحرب الأهلية الدائرة في العديد من بلدان العالم التي زارها للتضامن مع ضحاياها.
نختم برأي “ساراماغو” الذي ذكره في حوارٍ مع صحيفة “الباييس الاسبانية”، وكان قد أجريَ معه، وهو لايزال في الأراضي الفلسطينيّة. رأيٌ أكّد فيه، أن كلّ كلمة قالها في اتهامه إسرائيل بممارسة حرب إبادةٍ ضد الفلسطينيين، كانت تعني ما تتضمنه، وأنه فكر كثيراً في هذه الكلمات، واعتنى باختيارها قبل الإدلاء برأيه.. لأنه ببساطة، قد وصف بدقّة ما شاهده على أرض الواقع، وغير مستعدّ للخضوعِ لأيّةِ ضغوطٍ للتراجع عما قاله.
هذا هو “ساراماغو”.. الروائي الملتزم في قضاياه، داخل وطنه وخارجه، والذي وإن كان من الصعوبة، حصر سيرته النضاليّة الأدبية الطويلة بهذه العجالة، إلا أنني حاولت أن أقدّم للقارئ، صورة تقريبيّة، تعرّفه به أكثر، وتفسح له المجال لتناول أدبه بسهولةٍ، ولتعمّ ثقافة الحقّ والإنسان بين جميع الناس في العالم.

التاريخ: الثلاثاء20-7-2021

رقم العدد :1055

 

آخر الأخبار
سوريا: التوغل الإسرائيلي في بيت جن انتهاك واضح للقانون الدولي محافظ درعا يحاور الإعلاميين حول الواقع الخدمي والاحتياجات الضرورية جامعة إدلب تحتفل بتخريج "دفعة التحرير" من كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال وزارة الداخلية تُعلق على اقتحام الاحتلال لبيت جن: انتهاك للسيادة وتصعيد يهدد أمن المنطقة شريان طرطوس الحيوي.. بوابة سوريا الاستراتيجية عثمان لـ"الثورة": المزارع يقبض ثمن القمح وفق فاتورة تسعر بالدولار وتدفع بالليرة دور خدمي وعلاجي للعلوم الصحية يربط الجامعة بالمجتمع "التعليم العالي": جلسات تعويضية للطلاب للامتحانات العملية مكأفاة القمح.. ضمان للذهب الأصفر   مزارعون لـ"الثورة": تحفيز وتشجيع   وجاءت في الوقت المناسب ملايين السوريين في خطر..  نقص بالأمن الغذائي وارتفاع بتكاليف المعيشة وفجوة بين الدخول والاحتياجات من بوادر رفع العقوبات.. إبراهيم لـ"الثورة": انخفاض تكلفة الإنتاج الزراعي والحيواني وسط نمو مذهل للمصارف الإسلامية.. الكفة لمن ترجح..؟! استقطاب للزبائن وأريحية واسعة لجذب الودائع  إعادة افتتاح معبر البوكمال الحدودي مع العراق خلال أيام اجتماع تحضيري استعداداً للمؤتمر الدولي للاستثمار بدير الزور..  محور حيوي للتعافي وإعادة الإعمار الوط... حلم الأطفال ينهار تحت عبء أقساط التعليم بحلب  The New Arab : تنامي العلاقات الأمنية الخليجية الأميركية هل يؤثر على التفوق العسكري لإسرائيل؟ واشنطن تجلي بعض دبلوماسييها..هل تقود المفاوضات المتعثرة إلى حرب مع إيران؟ الدفاع التركية: هدفنا حماية وحدة أراضي سوريا والتعاون لمكافحة الإرهاب إيران.. بين التصعيد النووي والخوف من قبضة "كبح الزناد" وصول باخرة محملة بـ 8 آلاف طن قمح الى مرفأ طرطوس