كانت في تلك الليالي القمرية، لا تحتاج إلى قنديل للإضاءة…ولا إلى منجل تبعد الأشجار المحتشدة، وتحفظ أماكن الحشائش المتباهية بجمالها أبداً…وتتفاداها بحذر ..كأنها تتفادى منعطفاً خطراً.
لطالما شعرت أن المكان يسحرها، وأمسك بها إلى الأبد وباتت عاجزة عن فراقه…!
حين تفارقه مرغمة لأمر ما، تنهي الأمر بسرعة وكأنها عادت إلى الجنة…حين حزمت حقائبها مرات عديدة، كي تغادر كما فعل غالبيتهم…سر ما أعادها…
صوت أم كلثوم ليلاً…وفيروز صباحاً…وكل تلك الأغنيات الفرنسية التي حفظتها لاديث بياف، لارا فابيان… ومؤخراً لأديل وبيونسيه …سواء استمعت إليها داخل المنزل الواسع أو في حديقته..حيث كلّ ركن فيها تشعرها أن فناناً شديد الذكاء ركز على اللون الأخضر والترابي..بينما استجمع ألوانه كلّها في تلك الزهور ..بحيث تبدو أيامها كأنها أسيرة لوحة لا يفوقها إبداع آخر..
كلّ ما تمنته لو أنها عرفت هذا الفنان…منذ زمن بعيد، لربما أخذت جرعة وقائية، سائل ما…أيا كان… يقيها من كلّ هذا الانبهار…!
حين ترغم نفسها على المغادرة، تستنفر قواها وتبدأ حتى قبل يوم من الخروج بلعب اليوغا، ومحاولات الاسترخاء تتابعها في الصباح الباكر….
ما إن تصعد السيارة الذاهبة إلى وسط البلد، حتى يبدأ الحال بالتبدل، وتندم على خروجها الاضطراري، تحاول أن تدير وجهها عن كلّ تلك الوجوه البائسة، الموسيقا في السيارة المهترئة كمطرقة تنهال على رأسها، تأخذ نفساً عميقاً، وتحاول استرجاع أي ذكرى تعينها على احتمال كلّ ما تراه عن بعد…بضعة أمتار لا غير…
ولكن السيارة تمشي ببطئها المعهود، تشعر أنه بداية مشهد في فيلم رعب، ستعيشه اليوم، قبل أن تقرر انهاء أمورها على وجه السرعة والعودة إلى منزلها…
حين نزلت إلى السوق وفتحت القائمة المختصرة التي تود شراءها، أيضا كثفتها للمرة العاشرة، ولم تجادل بالأسعار، شعرت باللاجدوى…لا من النقاش فحسب ..بل من كلّ شيء…
العبث كأن صموئيل بيكت…وألبير كامو…عادا من جديد لكن مع المئات من مسانديهم الواقعيين ليصيغوا شبه مدينة سريالية…لا شيء فيها قادر على تغيير كلّ تلك الحروف والكلمات التي علقت في أذهاننا عن عبث اعتقدنا يوماً أننا لن نعيشه سوى في تلك الأفكار الغريبة التي عبرت علينا من زمن غريب..!
في طريق عودتها..كان إحساسها جامداً.. لا شيء…
فراغ كبير يلفها…
وضعت الأكياس على جانب المطبخ…
شعرت أن المكان بلا روح..
او ربما هي من انتزعت روحها..
فقد المكان جماله…ولم يعد له أي سحر..
لا طعم لجمال مجتزأ …
الأمر حينها لا يعدو سوى هروب وقتي
رؤية – سعاد زاهر