الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
يقول السيد الرئيس بشار الأسد في الخطاب التاريخي الذي ألقاه في السابع عشر من تموز الماضي بمناسبة أدائه القسم لولاية دستورية جديدة: ” نهزم عندما نخلط بين الانتماء العربي وبين حكومات مستعربة وعندما لا نميز بين عروبة الانتماء وعروبة السياسة بشكلها الراهن، فانتماء الإنسان بحسب سيادته “ليس خياراً يحدده بإرادته ولا نظريات يتبناها، وإنما هو حقيقة مكتسبة بالولادة بداية وبالتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه لاحقاً”.
ويقول في فقرة أخرى من الخطاب: ” الانتماء أوسع من أن يحصر بعرق أو دين أو مذهب أو لغة أو مصلحة مشتركة أو إرادة مشتركة أو تاريخ أو جغرافية لأن الانتماء هو حالة حضارية إنسانية يجتمع فيها كل ما سبق، وهذا هو حال عروبتنا بمعناها ومضمونها الحضاري الجامع الذي يزداد غنى بازدياد أطياف المجتمع”.
ويضيف: “وأما نحن في سورية فسوف نهزم نفسياً وفكرياً عندما نعتقد أن انتماءنا القومي هو لحدود سياسية رسمها المحتل”.
إذاً الانتماء القومي العروبي لا يمكن أن يقوم على أساس عرقي أو عنصري أو ديني أو طائفي أو يرتبط بحدود سياسية “مصطنعة بالأساس كما يزعم أو يحاول البعض التسويق، ولا يمكن أن يشكل الانتماء لعرق عربي “صاف” شرطاً من شروط الانتماء القومي، بل العروبة هي مزيج حضاري وإنساني يمتد لأكثر من ألف عام، وهو غير مرتبط بالتطورات السياسية التي مرت بها الأمة، ففي فترات سابقة استطاعت هذه الأمة أن تستوعب كل الوافدين إليها من بلدان وشعوب أخرى، وخير مثال على ذلك العصر العباسي الذي تميز بتنوع هائل من الثقافات والعلوم والآداب التي أغنت الثقافة العربية في مجالات مختلفة، وقلما ينتبه الكثيرون ممن يقرؤون الثقافة العربية في ذلك العصر إلى جنسية ابن سينا أو الفارابي أو الرازي أو غيرهم ممن أغنوا المكتبة العربية بإبداعاتهم باللغة العربية، لأن هذه اللغة الغنية بمفرداتها كانت حاضناً حضارياً خلاقاً لكل ما أنتجه هؤلاء المبدعون.
اليوم ثمة محاولات عديدة من جهات مشبوهة لتكريس التقسيم والتجزئة والفرقة بين مكونات المجتمع العربي الواحد، تارة تحت غطاء عرقي أو لغوي أو ديني، وتارة تحت غطاء مذهبي، وتارة تحت نزعات شوفينية متعصبة معادية للعروبة بمفهومها الحضاري، وهي محاولات مدعومة وتتم بالتحريض من قوى استعمارية كبرى لها مصالح ومآرب خاصة في منطقتنا كالولايات المتحدة الأميركية وربيبتها “إسرائيل”، ومن ذلك السعي لقيام كانتونات انفصالية في سورية والعراق والسودان والجزائر، إذ نسمع اليوم عن ما يسمى “الإدارة الذاتية” للأكراد، وإقليم كردستان في العراق، وقد سبق للولايات المتحدة أن حاولت تقسيم العراق خلال فترة احتلاله إلى ثلاث دويلات اعتمدت الطابع العرقي والمذهبي لضرب وحدته ووحدة مكوناته الحضارية، وفي السودان تم اعتماد معايير دينية لضرب وحدة السودان وتقسيمه، وفي الجزائر أيضاً يحاولون تقسيم المجتمع تحت عناوين لغوية عبر خلق خلافات بين المكونين العربي والأمازيغي.
إذاً في كل بلد عربي ثمة مشروع استعماري لضرب الانتماء للهوية العربية الجامعة، من أجل إضعاف هذه الأمة ونهب ثرواتها وضرب مكوناتها بعضها ببعض، خدمة للمشروعين الصهيوني والأميركي اللذين يتقاطعان ويتطابقان في نقاط كثيرة، ويحاولان الهيمنة على مقدرات الأمة وعلى قرارها السيادي.
ففي كل بلد عربي تقريباً تم زرع أنظمة أو تيارات إما ليبرالية أو إسلامية أو يسارية لتكريس هذا المشروع التدميري للهوية العربية، إضافة للجماعات الإرهابية المتطرفة المستعدة للعمل في نفس السياق، كما يحدث في سورية عندما تم زرع تنظيم داعش الإرهابي وأشباهه من قبل أميركا وأدواتها في فترة سابقة لتقسيم المنطقة، واليوم يستثمر الأميركي بمرتزقة ميليشيا “قسد” لفصل الجزيرة السورية عن الوطن الأم، في حين يستثمر النظام التركي بجماعة الأخوان المسلمين الإرهابية لتمرير بعض أوهامه وأجنداته العثمانية، كما يجهد للتأثير على بعض المكونات الأخرى في سورية كي تكون جزءاً من هذا الأجندة الخبيثة، لأن العروبة الحضارية التي ترفع لواءها سورية هي نقيض كل هذه الأجندات الخارجية والاستعمارية التي تستهدف المنطقة ولهذا يُعمل على ضرب أساساتها المتينة في سورية عبر خلق هويات بديلة ومصطنعة.
لقد أثبتت التجارب والأحداث والتطورات أن العروبة لم تكن يوماً حركة عنصريةً أو شوفينية، ولم تعتمد يوماً على مقولة “الصفاء العرقي” لأنها مقولة غير علمية وغير صحيحة، ولا يوجد أمة من هذا النمط، فكيف الحال إذا كانت الأمة العربية وسط العالم ونقطة التقاء حضاراته ومهد دياناته السماوية ونقطة تقاطع طرق التجارة العالمية والهجرات والغزوات والحروب وما إلى ذلك مما جعلها أبرز ساحات التفاعل بين الأمم والشعوب.
