الملحق الثقافي: وجيه حسن:
حدّث نفسه، حديث النفس للنفس قائلاً:
“أفي كلّ يومٍ صفحة جديدة؟ وقصة وقصيدة؟ وهل هذا النّسج والتّحبير، والرّسم والتّسطير يعود عليك بالرّغيف، وحبّة الزّيتون، وعنقود العنب”؟.
يا نفسُ مئة مرة قلتُ لك راجياً: “أقلعي عن هذه “العادة السيّئة” – عادة الكتابة – وصرف الورق الثلجيّ بلا طائل، ومن غير فائدة”!.
وقلت أيضاً: “بل احفظي هذه الأوراق بيضاء، ناصعة، مشعّة، لا تلوثيها بمِداد الحسّ، وحبر الرّوح، و “وحل” الكلمات، فكلّ هذا لا يثلج الصّدر، لأنه لا يُغني ولا يُسمن”!.
“ما لك يا نفسُ وهموم الناس وآلامهم، وهموم الأوطان وآلامها، التفتِي إلى همومك الخاصّة “النرجسيّة”، إلى صراعاتك، إلى عذاباتك الداخليّة، وقومي بعدئذٍ بتضميد الجراح، وأخْذ الجرعات والأدوية اللازمة، كي تعودَ إليكِ عافيتك المهاجرة، وحتى لا يتّهمك الآخرون بانحراف الصحّة، والبعد عن مصادر الضوء”!.
يا نفسُ ألف مرّة قلت لك برجاء مُلحّ: “.. لا تعبثي بالوهمِ القاتل، في قلب عاصفته الهوجاء، على ضفّة النهر، وهامش القضيّة، وخارج الزمن ..”!
“.. كلّ عمل في هذه الحياة المتلاطمة يعود عليك بالنّفع العميم، والرّزق الوفير، إلا (مهنة الكتابة).. ومرّات ومرّات طالبتُكِ بالابتعاد عنها، ورفض الانغماس في أتّون لهبها وحرائقها، ولكنك يا نفسُ كنتِ بعنادٍ تخالفين النّصح والإرشاد، بل كنتِ بتصميم انتحاريّ، تصرّين على خوض نار المتاعب، وارتياد هذا الجوّ العكر ــ جوّ الكتابة ــ وكانت كلماتي النّصوح لا تصادف لديك أذناً واعية طريّة، فتنطلق خارجاً لتتدحرجَ على إسفلت الطريق، ولحظة ئذٍ تأخذ طريقها إلى بحر الضّياع والعدم، وكنتُ وقتها أسمع قهقهاتك العالية، وهي تتسارع وتتعالى، لتغيظَ منّي الأذن والقلب والفؤاد”…
“أيتها النفس، خوفي على مستقبلكِ من الضياع والتشتّت، يدفعني إلى أنْ أكون قاسياً معك في كلّ كلماتي ومواقفي.. والخصوم، والشّامتون، والحَسَدَة يترصّدونك، ويحيكون حولك خيوطاً “عنكبوتيّة” واهية، ذلك هو دأبُهم السّاقط، المرفوض جملة وتفصيلاً وقولاً واحداً!.
“كلّ هذا وذاك يدفعني إلى نُصحِك بأنْ تتركي مهنة المتاعب لأناسٍ سُذّجٍ بسطاء “أغبــ …” يهوون مهنة التّعب والشّقاء والضّنَى..”!
“..يا نفسُ إذا استمرّ عملك في النّسج والتّحبير مطّرداً، فأبشِري بيوم تصبحين فيه شجرة ليمون عاقر، لا تزهر ولا تثمر.. وإنْ بقيتِ على موقفك المُتعنّت، وعنادك الرصاصيّ، فإنك ستتعبين، وستبدي الأيام نواجذها لك، وسيهرم منك الجسد، ويتغضّن الوجه قبل الأوان، وحينئذ ستندبين حظك، وستقفّعين يديك بيديك، لأنك لم تفتحي أذنيك على مصراعيهما، وعقلك على مداه، ولم تستفيدي من نصح النّصحاء، وإرشاد الأصدقاء”!.
“يا نفسُ، القراءة والكتابة، والكتابة والقراءة عملان يُسمّمان العقل، ويفجّران فيه أصابع ديناميت، ويعكّران “صفو الرّوح” فلا تقربيهما”…
“أنْ تسيئِي في كلّ يومٍ إلى بياض الورق، شيءٌ ليس في مصلحتك البتّة، وسيأتي الزّمن الذي تعترفين فيه بهذه الحقيقة الدامغة، طال الزّمن أو قصر..”..
“..كلّ الأوراق التي لوّثتِ بياضها ذات يوم، وذات موقف، ستحاسبك، وستوقِفك على مرتفع من الأرض أمام الملأ، وتحت لفح الشمس، وسترين المصير الأسود الذي ينتظرك..”!
“..يا نفسُ الدّربَ الذي اخترتِ كان درباً صعب المُرْتقى، محفوفاً بالمواجع والمخاطر، وهو بالمختصر المفيد لا يُطعمك عنباً ولا زيتوناً ولا خبزاً ولا هواءً، فاسمعي نصيحة النّصحاء ولا تعاندي..”…
“..يا نفسُ.. بصراحة متناهية، ما تلوّثينه وما تكتبينه، مجموعة من الألفاظ الجوفاء، والأفكار اليابسة، والرّؤى الشّوهاء الغُثاء، وهي في الجملة مصابة بحروق وكدمات ورضوض وعليك بأقرب غرفة إسعاف لمعالجة ذلك كلّه”..
“..يا نفسُ كلّ تموّجاتك، وكلّ أفكارك، وكلّ قوّتك واندفاعاتك لا تعادل قوّة حجرٍ صغير في يدِ طفلٍ فلسطينيّ مُنتفِض، أو إيمان استشهاديّ غزاويّ أو جنوبيّ بطل، أو وقفة عزٍّ لصنديدٍ أسطوريّ في وجه عدوّ صهيونيّ شرس، أو في وجه موتور ذئبيّ من أهماج الحرب الضّروس الظالمة، التي شُنّت على بلدنا الغالي العزيز..
الحجر نطقَ، فاسكتي يا نفسُ.. وتجمّدي عند نفق الفم يا حروف…
وحتى أكون منصفاً، صاحب قلم نزيه مُعافى، سأهمس في أذنيك، بل سأصرخ فيهما، وعلى الملأ، وبأعلى الصوت: بل اكتبي يا نفسُ.. وانسجي.. وحبّري.. ولوّني آلاف الصفحات بأفكارٍ مضيئةٍ تمنح بطلنا “الرّابض المرابط” في كلّ الميادين، كثيراً من الأزيز والصّدى، حتى يُكمل صنع الحياة على طرازٍ جديد جميل، يعيد إلى القلوب المَهِيضة فرحها المهاجر، ويعيد الأرض الطهور لأصحابها الشّرْعيين…”!
“..القلم يا نفسُ “حجرٌ” و”رصاصة” ولكنْ من نوع آخر، وبقوّة أخرى.. فانسجي، وحبّري، واكتبي ولا تبتئِسي، ففي الكتابة حياة أيّة حياة، وفي القراءة ربيع أيّ ربيع..”!!
“.. وأرجوك لا تتوقّفي عن القراءة والكتابة لأيّ ظرف كان، مع اعتذاري أوّلاً وآخراً عن كلّ كلمة لم تكن في مصلحتك البتّة.. ولا تصدّقي شيئاً من اتّهاماتي الباطلة البلهاء، فلقد كُتبت في لحظة ضبابيّة، سَرابيّة، طائِشة.. وأنا لكِ، ومعكِ.. فَتفجّرِي”…
التاريخ: الثلاثاء10-8-2021
رقم العدد :1058