ما بين الأجيالِ.. صراعٌ أم تتابُع؟!..

الملحق  الثقافي – غسان كامل ونوس*:

أذكر أنّني، منذ وقتٍ طويل، قرأت سطوراً مترجمة لأسطورةٍ على رقيّم قديم؛ تتضمّن كلاماً حول رأي الآباء بالأبناء، أو العكس، وهو لوّام بشكلٍ أو آخر، ويعبّر عن عدم رضا أو اقتناع أو تفاهم.
تكاد العلاقة بين الأجيال في مختلف المجتمعات والأزمان، لا تهدأ ما بين مدّ وجزر، واتّهامٍ وتذمّر وتبرّم، وإن بقي كثير من ذلك مكتوماً، حتّى إن بدا احترام وتقدير واعتراف بالفضل للآباء من الأبناء، وعطف وإشراف على الأبناء من الآباء ورعاية لهم صغاراً، واهتمام وحماية وتدبير للآباء كباراً من قبل الأبناء.. وهذا واجب وحقّ، وبعض ما يجب أن يكون..
ولا شكّ في أنّ الظروف، اختلفت كثيراً بين الحاضر والماضي القريب والبعيد، ولم تعد هناك تلك المسافة في التعليم بين الكبار والصغار، ومن ثمّ فإنّ ما ينجزه الصغار والشباب، وما يحصلون عليه اليوم من شهاداتٍ وعلوم، قد لا تكون جديدة ومميّزة في عيون الأهل، ويبقى المطلوب أكثر فأكثر، وأعلى فأعلى؛ فيما كانت نسبة الآباء المتعلّمين، وربّما الذين يفكّون الحرف ليست كبيرة- وهذا لا يعني حتماً الجهل وانعدام التفكّر والرؤيا وعدم الخبرة الحياتيّة- في مجتمعاتنا النامية على الأقلّ؛ ولهذا تأثير قد يكون غير مباشر على العلاقة بين الجيلين، وربّما الأجيال.
وتكاد تكون مسألة التعليم والشهادات العاديّة اليوم تحصيل حاصل، والحدّ الأدنى الذي لا يُنظر إليه كثيراً، ولا يُهتمّ به؛ أمّا الضرورة، فهي للتميّز، والوصول إلى الدرجات التامّة، والمراتب المتقدّمة، والشهادات العليا؛ وهي حال محفّزة ودافعة وحاثّة لا شكّ، مع حمّى السباق، الذي لا رؤية لخطّ نهايته؛ لكنّها، في الوقت نفسه، حال، تجعل الولد- أو البنت- الشابّ- أو الشابّة- لاهثاً ملاحَقاً قلقاً متوتّراً، لا إمكانية لديه للعب، والتفكير والانشغال في شؤون الحياة الأخرى خارج المهمّة الدرسيّة، ومشغولاً بالمصير، الذي ينتظر، أو يراوغ، من بعيد، والسعي الجادّ من أجله، بلا راحة ولا هوادة.
إنّ الطفل في البيت، وفي مرحلة الروضة- وحتّى ما قبلها- يُعلّم، أو يُربّى، أو يُحاسَب، وقد يُساءل على ما تعلّم، أو رسم، أو عزف، أو حفظ، أو لُقّن، وقد يُباهى بما أنجز أمام الآخرين؛ من دون أن يُسأل عمّا يُحِبّ، أو ما يستمتع به، أو يرغب باقتنائه أو ممارسته! وقد لا يُهتمّ في النهاية بما يريد أن يتخصّص به، أو يمارس من أعمال؛ بل المطلوب منه، وهذا يُرسَّخ في ذهنه وتفكيره، مع النموّ العمريّ والعقليّ، أن يحقّق ما يريده الآباء، ورغباته في الدراسة الجامعيّة هي رغبات والديه، وما تخوّله الدرجة، التي نالها في الشهادة، وإذا ما قصّر عن ذلك، وفي أيّ تقدير، ولأيّ سبب كان- وهذا وارد وأكيد؛ لأنّ المستويات متباينة والإمكانيّات متفاوتة، وبعض الذي يجري ليس جادّاً أو مجدياً تماماً؛ ككثير من الممارسات والأعمال الأخرى، وفيه بعض مظاهر الموضة أو العادة أو العدوى!- فقد يثبت في تصوّره من ردود الأفعال، التي يلقاها، أو يستشعرها أنّه فاشل، وأنّ الحياة لا معنى لها، ما لم يكن قد نال ما يُرضي الوالدين والأقارب والمعارف القريبين والبعيدين، وما يتيح له أن يسجّله، أو يفاضل عليه، حسب رغباتهم ومطالبهم، أو حسب الرأي العام أو النظرة السائدة في المجتمع!..
لقد غدت الدراسة هاجساً دائماً في أثناء الدوام المدرسيّ وخارجه، في الموسم الدراسيّ، وفي الأعطال القصيرة والطويلة؛ ساعات إضافيّة، ودورات متّصلة في بيوت الأهل أو المدرّسين، في المعاهد والمدارس الخاصّة، المرخّصة وغير المرخّصة، وصار المدرّس منضغطاً، والطالب مضغوطاً، والأهل مراقِبين ومتابِعين بالمرصاد، وبات الجميع ملاحَقين مهمومين- يشهقون ولا يلحقون!- ولم يعد ذلك يقتصر على الشهادات وأعوامها، ولا الصفوف العليا وموادّها العلميّة؛ بل يشمل الصفوف كلّها، والمواد جميعها، ولم تبقَ الساعات الدرسيّة الخاصّة مخصّصة لحلّ التمارين والوظائف والتدرّب الإضافيّ عليها، والمراجعة والتأكّد من القدرة على التصرّف حيال ما قد يأتي في الامتحان من مسائل فحسب؛ بل أصبحت ساعاتِ تحضير وإعداد وتسميع، وإجابات على الدورات الامتحانيّة السابقة- مع الإشارات والتلميحات ذات المعنى إلى ما هو مهمّ، وقد يأتي!- وانتقل الأمر إلى كتابة بديلة، وتنفيذ أشغال ومشاريع جاهزة من التعليم الأساسيّ وحتّى الجامعيّ، وأصبح كثير من الأهل، الذين يحملون شهادات ولديهم إمكانيّات، يستقدمون الأساتذة فيما هم مختصّون فيه؛ فليس لديهم وقت ولا مزاج ولا خبرة، إلّا في المراقبة والسؤال من قريبٍ وبعيد، والدفع والمساءلة والاتّهام والتقريع ربّما!
وإذا ما طالب الفتى- أو الفتاة- بحقّه في بعض وقت مع أقرانه ومع جهازه الخليويّ، ومع نفسه في التفكير والتأمّل- ويا ليت هذا يحصل كثيراً- فإنّ هذا مدعاة للتأفّف من قبل الأهل، والمرافعات بشأن رفاق السوء، ومضارّ وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهدر الوقت، والمقارنات مع الآخرين، حاضرة وجاهزة.
والعلاقة بين الجيلين، أو الأجيال، لا تقتصر على هذا الجانب، على أهمّيته واتّساعه، وقد يكون المجتمع زراعيّاً أكثر، وصناعيّاً نسبيّاً، فينخرط الأولاد في المزارع والحقول والورش، من دون طفولة أو متطلّباتها.
صحيح أنّ أماكن اللهو ضاقت، والألعاب تحدّثت، وتحدّدت، وانتقلت من البيادر والملاعب والأزقّة والساحات، إلى ما بين الجدران؛ وأنّ الهواء تعكّر، والرؤية ضاقت، والمشاركة قلّت، والإشراف زاد إلى المنع المنبوذ، أو انعدم بسبب الانعزال، ولكنّ هذا لم يجعل الأمر أكثر قرباً؛ بل صار أكثر بعداً وتباعداً وانفراداً…
وصحيح أنّ هناك أهلاً يغيبون، وأولاداً يبتعدون، مادّيّاً أو معنويّاً، والأسر غدت أكثر تفكّكاً، وأوقات السمر تقلّصت، وأيّام حكايات الجدّات ولّت، وانشغالات الآباء زادت؛ لأنّ الحاجات تضاعفت، والإمكانيّات لا توازي اللازم والمطلوب.. ويأتي كلّ هذا عكس ما يجسر العلاقة بين الجيلين، ويفاقم التناقض أو التنائي النفسيّ والمعرفيّ والإنسانيّ بين أبناء الجيل الواحد؛ فكيف بأجيالٍ ومستوياتٍ وإمكانيّات؟!
أرى، في العموم، أنّ هناك ظلماً يحسّه أبناء الجيل، من الظروف المفروضة عليهم من الأهل وسواهم، ومن المهمّات التي عليهم إنجازها، من دون تقدير لحاجاتهم الأخرى وطبيعتها؛ والأهل بدورهم يعانون من الظلم أيضاً من أبنائهم، الذين لا يقدّرون، ومن الظروف الخاصّة والعامّة أيضاً، والمسؤوليّات، التي لا تنتهي، على الرغم من أنّهم يقدّمون دم قلوبهم، ونبض أعمارهم.
ليست القضيّة سباقاً بين متسابقين، لمعرفة من يصل أوّلاً، أو من يسجّل نقاطاً أو أهدافاً على الآخر؛ كما أرى؛ بل يمكن أن تشبّه بسباق تتابع لا نهاية له؛ كلّ جيل يستلم من الجيل، الذي سبقه، ويتلازمان زمناً، قبل أن يتوقّف سابقون متقدّمون أو مقصّرون، ويستمرّ لاحقون تعويضاً وكسباً، والنتيجة في نهاية كلّ مرحلة، تضاف إلى رصيد الجميع، وفي صالح الجميع أن تكون الحصيلة وافرة.
كلّ ما ذكر أعلاه، يصحّ في الحياة العاديّة السارية المتطوّرة موضوعيّاً؛ أمّا في الحالات غير العاديّة، بتأثير الحروب والكوارث البشريّة والطبيعيّة، ومنعكساتها على الأنفس والمسارات والأوقات والأولويّات والأحلام والغايات والمصائر؛ كما يحدث في السنوات الأخيرة، فإنّ العلاقة بين الجيلين، والأجيال عموماً، ستتعقّد أكثر، وستغدو الصدوع أوسع والشروخ أوسع، وستتفاقم المشكلات والأحوال، ويصبح من الضروريّ أن يؤخذ ذلك في الحسبان، لدى النظر من كلّ منهما إلى الآخر، ومن الطبيعيّ أن يتحمّل الأكثر وعياً ونضجاً وقدرات، مسؤوليّات أكبر في تمتين الصلات، وتأمين الاتّصال والتواصل، وتشجيع المبادرات الفرديّة والجماعيّة الخاصّة والعامّة في هذا الاتّجاه؛ ولا شكّ أنّ للجهات المسؤولة المعنيّة، والمجموعات الأهليّة بأنواعها، دوراً مهمّاً في ذلك، وعليها واجب القيام بذلك أيضاً.

*شاعرٌ وأديب وقاص

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار