الملحق الثقافي – عبد الحكيم مرزوق:
في محاضرة “النقاءُ الفكريّ بين الوهمِ والحقيقة” التي أقيمت مؤخراً في مقرِّ فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب، وبحضور جمهورٍ من الأدباء والمهتمين، ومتابعيّ الأنشطة الثقافية.. في هذه المحاضرة، يبدأ الباحث “عطية مسوح” بالحديثِ، عن كون النقاء صفة محبّبة نطُلقها على من نجدُ لديه صفات أخلاقية حميدة وسلوكاً جيداً، ذلك أن النقيّ لا يخدع ولا يغدر، وبالتالي فإن علينا أن نكون في إطلاقها صادقين أخلاقيّاً ووجدانيّاً. لكن، هل نحن صادقون منطقياً وعرفانياً؟..
أطلق “مسوح” هذا السؤال، ليبيّن الفرق بين النقاء بوصفه صفة وجدانية أخلاقية، والنقاء بوصفه صفة فكريّة وثقافيّة، وهو جوهر البحث وغايته، فقد رأى أن النقاء الفكريّ، يدلُّ على الفكر النظيف الذي لا تشوبه شائبة، أو آثار فكرٍ آخر بعيد أو مخالف، وأشار إلى أن مصطلح (النقاء الفكري) انتشر في القرن العشرين بين حاملي الأيدولوجيات، وخاصة لدى المنظّرين والسياسيّين في التيارات: القومي والماركسي والديني.. وبأن هذا المصطلح، غدا أشبه بالمسلّمات لدى المنتمين إليها، ليعود ويتساءل: هل هناك فعلاً نقاء فكريّ؟، وإذا وُجد فهل آثاره إيجابية أو سلبية؟.
هنا يعلن، أنه سينطلق من حقيقة أثبتها تاريخ الفكر والثقافة، وهي أنه ليس بين التيارات والمذاهب الفكريّة المتنوعة جدران فاصلة، ذلك أنه: توجد في الواقع تيارات فكريّة، ويوجد بينها نوع من التفاصل، أي إنّ لكلِّ تيّار سماته وخصائصه ومنطقه، وبالتالي خطابه، ولكن بينها نوع من التواصل أيضاً، فكلّ منها يتعامل مع الآخر، قبولاً ورفضاً وحواراً، أيّ تأثّراً وتأثيراً، وكما أن التفاصل نسبي، فكذلك التواصل .
ويرى أن دعاة النقاء الفكريّ يغلّبون سمة التفاصل، وتغدو عندهم نزعة يغذّونها باستمرار، ويرفضون التواصل أو يحدّون منه، وتحدّث عن النتائج السلبية لذلك، وهي كثيرة ومن أهمها: الانعزالية. (أي التقوقع والميل إلى التناحر والاحتراب)، وعدم رؤية النقاط المشتركة أو السمات والأهداف المتقاربة، والنتيجة السلبية الأخرى، هي الحرص على أحاديّة المرجعيّة الفكريّة .
رأى أيضاً: “إن ثقافة دعاة النقاء، تنحصر بكتب التيار الذي ينتمون إليه، ويؤدي ذلك إلى الضحالة المعرفيّة، وكثيراً ما نجد مثقّفاً دينيّاً لا يقرأ إلا كتباً دينية أو مذهبية، أو مثقفاً قوميّاً لا يطلع على كتب الليبراليّين أو الماركسيّين، ذات اللون الواحد، لأنّ الماركسية ذاتها تيّارات” .
بعد هذا، تحدّث عن وهم النقاء الفكريّ، لدى من يظنُّ نفسه نقيّاً فكريّاً، وأنه أفضل من غيره، قائلاً عنه: كم هو بسيطٌ من يظنُّ أن الفكر الذي يحمله هو حقيقة، وهذا يودي به للانعزاليّة، بالإضافة إلى الأحادية المرجعيّة، أو المرجعيّة الأحاديّة التي تترك آثاراً خطيرة في سلوك صاحبها، والحياة تعني لهذا الشخص ذي المرجعيّة الأحاديّة، لونٌ واحد أو قوامٌ واحد، وهو بذلك يخالف منطق الحياة، والحياة متنوعة وليست بذلك الضيق الذي يظنه.. ببساطة، الأحاديّة في الفكر، تحرم الفكر نفسه من إمكانية تطوّير الأفكار، فالأفكار تتطور من خلال جدل الفكر مع الواقع، وهذا يعني تدقيق الأفكار من خلال معطيات الوقع.
يتساءل “مسوح” هنا: ما الذي يحدث بعد ذلك؟.. يجيب: يحدث شيئان خطيران:
الأول :هو أنّ التيارات تقع في الانعزاليّة الفكريّة والثقافيّة، وتفقد التواصل ويؤدي ذلك إلى نوع من الاحتراب غير الطبيعي وغير المطلوب، وخاصة بين التيارات القوميّة والليبراليّة والماركسيّة، لأن بينها نقاطاً مشتركة كثيرة تضيع في احترابها.
الثاني :هو أنّ فكر كلّ تيارٍ، يضعف ويكفّ عن التطوّر، إذ إن آلية تطوّر الفكر هي الجدل بوجوهه الثلاثة. جدل الفكر والواقع، وجدل الفكر والفكر، وجدل الفكر مع ذاته .
يوضّح: المقصود هو جدل الفكر والفكر، أي الحوار بين التيارات الفكريّة، والحوار يعني تبادل التأثير، والفكر الذي لا يتأثّر لا يؤثر.. ليكون ما توصّل إليه، أن النقاء هو الحرص على عدم التأثّر بالآخر، لاسيما أنّ نزعة النقاء، قامت على مجموعةٍ من المصطلحات التي عبّرت عن رؤى انعزالية أهمها: القطيعة المعرفيّة، والغزو الثقافيّ، واستيراد الأفكار .
أمّا عن الفكر في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد وجده فكرٌ تصنيفيّ، والتصنيفيّة حالة موضوعيّة صنفت المجتمع على شكلين، الأول: عمودي يصنف الناس على أساسِ المذاهب والأديان والقوميات، والثاني: أفقي يصنّفهم على أساسٍ طبقيّ، وهذان الشكلان أنتجا ما سمِّي بوهم النقاء الفكريّ، لأن حملة التيارات الفكريّة، انطلقوا من تغليب التفاصل على التواصل، ونتج عن ذلك سياسات وأفكار عديدة، وقد تأذّى فكرنا العربي من هذه الاستنتاجات، ما أدى إلى القطيعة المعرفية التي تقوم على أفكارِ هذا التواصل، حيث كان البعض يظن أن مناهجه لا علاقة لها بالمناهج الأخرى، والقطيعة المعرفية شكلٌ من أشكال وهم النقاء.
أخيراً: وفي نهاية المحاضرة، يتناول “مسوح” ما سمّي بالغزوِ الثقافيّ، وصراع الحضارات، ويرى بأن التواصل بين الحضارات، يعود إلى كونِ الفكر الإنسانيّ عبارة عن حلقات متواصلة، فالثقافة العربية الإسلامية كانت أقوى الثقافات في العالم واستوعبت الثقافات الأخرى، وكذلك فإن عصر النهضة قد عرف الكثير من الثقافات والأفكار.. بالتالي، يوجد بين الثقافات تواصل، فهي تأخذ وتتفاعل وتحوّل ما تأخذه ليفيد حياتنا.
تحدث عن ذلك، وعن تهمة بعض المفكرين بأنهم مستوردون للأفكار، منوّهاً إلى أن “هذه المصطلحات ترتبط بوهمِ النقاء الثقافي، فإذا تبصّر كلّ منا بالأفكار، سيجد أنها جاءت من مصادرٍ متنوعة” .
لا شك أنّ هذه الرؤى التي تتعلّق بوهمِ النقاء، هي رؤى زائفة.. هذا ما ختم به، وبأن “العلاقة بين التيارات والثقافات والأفكار هي التواصل، والثقافة الأغنى والأنضج، هي التي تؤثّر أكثر مما تتأثّر، وهذا هو الطبيعي، فالتاريخ – ولا سيما تاريخ الأفكار- أثبت ذلك.
التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020
رقم العدد: 1060