تجد في كلّ قرية من يحدّثك عن قصة إنسانية حفرت في الذاكرة عميقاً تبعث مرّة على الحزن ومرّات على الغمرة الإنسانية… وبعيداً عمّن يُجمّلون الحياة هنالك ذكريات تنقشها جدران البيوت وسقوفها وطرقاتها وبعض من بقايا شجيرات شكلّت درءاً وستراً لأخوين طالبين في المدرسة قضَيَا أعوامهما يتناوبان على الحذاء الوحيد بين تلك الشجيرات ليذهب أحدهما إلى المدرسة فقد كانا في فترتين مختلفتين من الدوام المدرسي…
وفي مكان آخر سخر التلاميذ من زميلهم ذي الحذاء المهترئ، وباعتباري وقتها كنت مدرّسة الصّف وجدت نفسي أُحدّثهم عن التزام ذلك الطالب واجتهاده ومثابرته على ارتياد المدرسة حتى ولو بدون حذاء، ووبّخت التلاميذ حينها ودعوتهم عوضاً عن السخرية والضّحك أن يدفع كلّ منهم نصف ليرة لنشتري حذاء جديداً لزميلهم…
واليوم وزارة التربية تدعو إلى تخفيف العبء عن الأسر ومراعاة التلاميذ ممن لايلتزمون باللباس المدرسي، وكأنّ المجتمع التربوي لايعلم أنّه حتى اللباس العادي المخالف للمواصفات المدرسية هو عبء على العديد من الأسر الفقيرة…!!
عوضاً عن كلّ هدر حاصل وحفاظاً على سير العملية التربوية ووصولاً لأكبر شريحة ممكنة من التلاميذ الفقراء مادياً والتي لا يعلمها إلّا مدرّس أو معلّم أو معلّمة تعيش بين طلابها بالقدر الذي يعيشونه بين أبنائهم ليميّزوا حاجاتهم الإنسانية كما التربوية والتعليمية، وليُقيّموا ولتُقدّم الحاجات الفعلية والحقيقية لهؤلاء – (بمثابة ضروريات) – وليس إعانات…
مدارسنا معارض كبرى متنقلّة بين المدن والأرياف يمكن من خلالها أن نصل إلى شرائح الناس ونقدّم مواد إنسانية وثقافية ورؤى واجتهادات تحرّض على التفكير والتساؤل، ولعلّنا في وجدانيات الحياة نحظى بفرصة لنعقد اتصال الفكر بالأحداث والشخصيات وحركة البشر الحقيقية دون زخرفة أو تجميل ونرسم بأحبار المدارس مخطوطات تقويم الحضارة الإنسانية وقيمها، لأنها تبدأ من هناك حيث العلم والقيم الإنسانية النافعة في صناعة الجيل…
مستلزمات التعليم والتعلّم في عصرنا اليوم تبدأ من فهم البيئة التي يعيش فيها الطالب والوجدانيات التي تمّت إضافتها تعزّز ثقته بنفسه وبوطنه وتحقّق قيمة مضافة إذا ما تمّ تأمين بعض من احتياجات التلاميذ المادية، فنحن في وطن من أغنى الحضارات بعادات الشعوب وملابسها ومدنها واقتصادها وعلمها وعلمائها…
رؤية – هناء الدويري