الثورة أون لاين – سلام الفاضل:
إن أمتنا العربية الموغلة في أعماق التاريخ، وحضارتها السامقة التي أشاد بها كبار العلماء والمؤرخين والبحّاثة المتصفين بالموضوعية والتحيّز للحقيقة والوقائع، من أمثال: غوستاف لوبون، وسيغريد هونكه، ورينيه دوسو،… وسواهم، تتعرض اليوم – بل ومنذ مئات السنين – إلى تشويه متعمد لتاريخها القديم والجديد على حد سواء، مع تشكيك خطير يشارك به – للأسف – عدد من أبنائها، زاعمين أن العرب في بلاد الشام جاؤوا إليها واستوطنوها في أعقاب الفتح العربي الإسلامي، وأنه لم يكن لهم وجود ملموس وواقعي من قبل.
ومن هنا تأتي الدراسة الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان (دول وكيانات عربية في بلاد الشام قبل الإسلام)، وهي من تأليف: د. خلف الجراد، تأتي كدراسة مكثّفة أُريد بها أن تشكل مساهمة متواضعة في تصحيح جملة من المفاهيم والمغالطات التاريخية – الحضارية والأيديولوجية التي حفلت بها القراءات المتحيزة المغرضة فيما يخص منطقتنا العربية عامة، وبلاد الشام بصفة خاصة.
وقد استند المؤلف في دراسته هذه كما ذكر في المقدمة: “إلى عشرات المصادر القديمة والمؤلفات الحديثة والمعاصرة، وفي ضوء التنقيبات والاكتشافات الآثارية التي لم ولن تتوقف في هذه المنطقة الأغنى بتاريخها الحضاري وتميزها منذ آلاف السنين”.
تقع هذه الدراسة في أربعة فصول تناول الأول منها الحديث عن جغرافية جزيرة العرب، وموقع بلاد الشام فيها، وحاول عبره المؤلف تقديم رؤية تصحيحية لخطأ شائع منذ مدة طويلة، يتعلق مباشرة ليس بجغرافية منطقة جزيرة العرب وحسب، بل بتاريخها البشري والثقافي والسياسي والحضاري.
وعرض الفصل الثاني مسألة غاية في الأهمية والواقعية، ويُقصد بها هنا العلاقة بين العرب والساميين، ومدى الصلة بين هاتين الكلمتين ودلالتهما التاريخية والحضارية واللغوية، إذ أكّد المؤلف في ختام بحثه: “إن اللغة العربية هي اللغة الأم لما سُمي اصطلاحاً (اللغات السامية) وتفرعاتها المختلفة، وهي أنسب اللغات الباقية لدراسة تطور تلك اللغات أو اللهجات وبحث خصائصها وأساليب تعبيرها، فهي لغة مستقلة أصيلة لم تختلط كثيراً باللغات الأخرى، وبقيت صافية في مواطنها العربية. أما التشبث بهذه البدعة اليهودية – الصهيونية (النظرية السامية)، ثم التنكر لعروبة الساميين، فإنه لا يخدم سوى الصهيونية وكيانها العنصري التوسعي، الغاصب لفلسطين والجولان العربي السوري المحتل”.
واستكمل الفصل الثالث التجليات الحضارية العربية في بلاد الشام؛ في إطار السعي لتصحيح جملة من الآراء والأفكار التي روّجتها المدرسة الاستشراقية، وخاصة المستندة إلى قصص وأساطير التوراة والتفسيرات اللاهوتية المتحيّزة ضد العرب وتاريخهم وحضارتهم. مع تسليط الضوء بتكثيف على أبرز المعالم والمنارات الحضارية العربية في بلاد الشام والرافدين، انطلاقاً من حقيقة كونها جميعاً تُمثل حضارة عربية واحدة بأسماء مختلفة، تبعاً لأسماء الأسر، أو اللهجات، أو الأقوام العربية التي سادت في تلك المناطق والمراحل التاريخية.
واقتصر الحديث في الفصل الرابع على أبرز الهجرات العربية الداخلية لبلاد الشام، والمراكز الحضارية التي أقامتها، وإنجازاتها الأساسية والمتميزة في مناطق عمرانها وإقامتها الجديدة، والعلاقات التجارية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي نشأت فيما بينها (ومع الدول والإمبراطوريات والشعوب المجاورة) على مدى مئات السنين، ضمن بيئة حضارية عربية واحدة، بصرف النظر عن كثرة وتعدد المسميات المحلية والأوصاف التي أطلقتها عليها “التوراة” والتفسيرات الاستشراقية المختلفة.