الثورة – هفاف ميهوب:
عنوانٌ يجذبُ إلى قراءة ما تتضمّنه دواوين الكاتب والشّاعر الفلسطيني “موسى حوامدة” الذي لا يجيدُ فقط بلسمة جراح الكلمات العاشقة، بل والأوطان المشتعلة بآلامها الحارقة.. تلك الآلام التي ترعرعَ على وجودها فيه وحوله، لطالما كان ابن فلسطين التي رأى الصهاينة ينهشون جسدها، ويشرّدون أبناء وطنه.
رأى أيضاً “موتى يجرّون السماء” ولا شيء يحيا إلا ليقتل الحقّ والحقيقة، فما كان منه إلا أن قرّر: “سأمضي إلى العدم” و”أعرج على متعي البسيطة”.. فجأة وجد نفسه في الغربة وبأكثرِ من ظلٍّ، وجميع ظلاله باقية تحرسُ فلسطينه، وتتنقّل وإياه بارتعاشاتٍ، تارة تكفكفُ غربته النازفة، وأخرى تتّقد في مفرداته الغاضبة، من العدوّ وطغيانه.
بيد أنه ما جعله يمضي لا يلوي على تصديقِ أي شيء، سوى تلك الفكرة التي جعلت العقل يخاطب الاحساس: “أصدّق فكرة الشعرِ عندَ هوراس”:
“عَنِ الجُوعِ والألمِ يَتَحّدث الشعراءُ/ عن الفَقرِ والحزنِ والحَبيباتِ الرَّاحلاتِ/ عن الكلماتِ التي تَقتَفي الأسْطر/ عن الموسيقى والإيقاعِ داخلَ الكلمات/ عن جذبِ القرّاء وإرضاءِ النقّاد/ عن البطولاتِ والأوهام والأحلام..
أصدقُ فكرةَ الشعرِ عندَ “هوراس” ولا جدوى المروءةَ في الطبيعة/ وهي تمزقُ العَروضَ والبُحورَ والتفاعيل/ وتكتبُ بلا وَزنٍ ولا قافية/ فيُقهقهُ الرَّعدُ ضاحكاً/ وتتحرّكُ الجبالُ كالموسيقى/ ويتناثرُ الكونُ في اللاجاذبية/ يبتعدُ الخوفُ عن الأرض/ ولا تنتصرُ الفَضيلةُ..”.
هذا ما رآه “حوامدة” في زمنٍ أحكم قبضته على كلّ ما لديه، وترك باب الذاكرة مفتوحاً على تداعياته. طفولته الشقيّة، الفواجع التي توالت، والمجازر واليأس والتشظّي العربي، وسوى ذلك مما جعله يمضي مسكوناً بقصيدته:
“عن كلِّ شيء يكتب الشعراء/ وأنا لا أجدُ لغةً تطيرُ في الأعالي/ تخاتلُ الجمودَ والجموعَ/ تَرفعُ الظلمَ عن المظلومين/ والجبنَ عن الضعفاء/ ولا أجدُ لغةً تزيلُ الخوفَ من قلب الحجارة/ تُوقِفُ نزفَ دمِ الأرضِ/ تفتكُ بالشرِّ والعدوان…”..
يبهرُ القصيدة – الأنثى، بجمالِ الجهات التي قصدها، تشاءه دليلها العبقريّ، فيرفض ويواجهها:
“لستُ عبقريّاً لأخترع لكِ لغةً جديدة/ ولا ساحراً لأحوِّلَ لكِ الترابَ إلى ذهب/ لستُ “سيبويه” لأشتقَّ لكِ نحواً يليقُ بكِ/ ولا “الخليل بن أحمد” لأخترعَ لك بحراً/ أو فعلاً ثلاثياً خاصاً بكِ/ ولستُ “الحسن بن الهيثم” لأرى النورَ يومضُ في وَجهِكِ”..
ما أن سمعت القصيدة ما قاله عن ذاتهُ التي هي ذاتها، حتى لوّحت بقلقها وحزنها وخوفها ومعاناتها.. تقفزُ من بين يديه، فيقفز إثرها “كغزالٍ بري” يرمي كلّ ما لديه.. تعود إليه “زهرة برّيةٌ على هيئة قصيدة”، فينشدُ باسمِ أسمائها الحبيبة:
“طوبى للغرقى في بحارِ الذهول/ طوبى للغرقى في طيبةِ التّراب/ ورقِّةِ الورد وهشاشةِ الموسيقى/ طوبى للذين يُسرجونَ طيبتهم حرةً نافرةً من كلّ أذى/ طوبى للمدى الذي يضمُّك/ ويحنو عليك/ طوبى للرعد الذي يصهل فوق رأسك”..
يسمعها المزيد مما يراه “وافرٌ عمّا سواه”: “يا ربيعيةَ الضَّحكات/ خريفيةَ الجنونِ والخيال/ أيتها العاشقةُ المُتقلِّبةُ الدَّمِ والهواء/ حُلمُكِ سَحابٌ يَقطعُ رأسَ البخار/ على ساحلِ الغُربة/ وبيتُكِ ضيِّقٌ لا فَراغَ فيهِ ولا رَذاذ/ فَتَثبَّتي من حَلقةِ الباب/ واحكمي غَلْقَ البَحرِ عَلى جَسَدي/ وبالمزلاجِ المُعدِّ للغرباء/ اغلقي رتاجَ عمُري بيديك/ ولا تَتَعمدي تَشويه الخاتمة..”.