الثورة – رنا بدري سلوم:
عذراً منكَ، فأنا بكيتُ مراراً وسرقتُ أطواقَ الياسمين وقد مدحتُ النور يوماً فاحترقت، وما تبقى من وصاياك لم أكن أعلمها، وأعترف أننا كشعراء عصرنا قلوبنا كأنّنا نتعلم رقّة الشعور، وعقدنا أفكارنا كأننا نتعمّد الغموض والإبهام، وبكينا حدّ الإسراف، “أمين الريحاني” خاطبتنا بفلسفتك وبعد تسعة عقود من الزمن نقرأ وصايا الشعراء التي دونتها وكم نحن بحاجة إليها اليوم وعذراً لأننا لم نُنفّذها بعد، فقد نسينا أوطاننا في حُبّنا الإنسانيّ ونسينا الإنسانيّة في نزعاتنا الوطنيّة، خاطبتنا بأن نرفع للناسِ مشاعلَ الإباءِ والشرفِ والقوة والعدل والشجاعة والثبات والأمل والإيمان، وقبل كل شيء وبعد كل شيء أن نكفكف دموعنا، فالشمس لاتزال لنا.. والقمر لا يزال رفيقنا.. والربيع لا يخوننا.
من ثمرات العقول استلهم الأديب الزميل ديب علي حسن كتابه في فلسفة “أمين فارس الريحاني” فيلسوف “الفريكة”، طباعة الهيئة العامة السورية للكتاب، الذي كان له وصاياه الخمس والعشرون للشعراء، آلامهم دموعهم، فاستوقفتنا نظرة الريحاني لربّة “الشعر” متحدثاً لذاك الوحي: “قطع صوتٌ عليّ الكلام، فسمعته يقول: ولكنهم في شرقك العربي مسخوا اسمي وشخصي فاسموني شيطاناً وحملوني دناً فارغاً طيب الرائحة، مصباحاً دخّانه أكثر من نوره، وقالوا للشعراء: اتبعوا شيطانكم فتبعوه إلى دور الأمراء وإلى المقابر مديح رثاء ومديح، وتبعوه إلى ساحات الوغى يحاربون دواليب الهوى، وإلى طلول خاوية في ظلال شاوية وإلى غدر المكان تحت سدر الخيال، وتبعوه إلى بحيرات من نور القمر تسبح فيها عرائس الأحزان حولها بنات الجان، وفي من تبعوه من شعراء العرب أدركوا بهدى العبقرية لا بهداه حواشي الظل لعرشي الأعلى، قليلون عرفتهم وفي مقدمتهم المتنبّي والمعرّي والبهاء زهير، فقلت ربّة الشعر اعدلي فينا، ربة الشعر أنصفينا فقالت: اسمع وعِ، إن عندكم لكل وتر من أوتار الحيّ شاعراً يفوق جميع الشعراء.. عندكم المتنبي في فخامة القول والحماسة، والمعرّي في حريّة الفكر والحكمة، وابن الفارض في العشق السرّيّ الصوفيّ، والبهاء زهير في العشق الساذج الطبيعي، وأبو نواس في المجون والتهكم، وأبو العتاهية في الورع والتقوى، والشريف الرضي في شريف الغزل والنسيب، والمجنون في الوله والحزن والنحيب، أما الإفرنج فإنك لتجد كل هؤلاء في شاعر واحد كبير في شعرائهم، في غوته مثلاً، أو في الشاعر الأوحد شكسبير.
فقلت: وشعراء اليوم شعراء الوجدان، أولئكَ الذين يتعلّمون في المدارس اسمك القديم، واسم جبل وحيك، ويرون في الكتب رسمك تحملين القيثارة وهو يحسنون العد فيعيدون أوتارها، كما يعيدون أوزانهم، ولا يسمعون مع ذلك غير واحد أو اثنين منها، فما دواؤهم دام جلالك؟ ما السبب في بلائهم؟ هل السبب في السمع والبصر؟ أم هل هو التربية الشعريّة القياسية؟ فقالت ” ربة الشعر”: إن داءهم الأنانية، وإن بلاءهم في نصف بصيرتهم، ونصف سمعهم، أجل إن أكثرهم لذو عينٍ واحدة وأذن واحدة، وإنهم إذا ما نظروا إليّ لا يرون غير نصفي الأدنى، ومنهم من لا يرى غير جزء منه، وإذا هم أنصتوا لي فلا يسمعون غير صدى كلماتي العالية، فخيرُ لهم وهذه حالهم إن يناجوا شياطينهم من أن يطوفوا حول معبدي، ويرددون القوافي القديمة الصدئة في المديح والرثاء وبعد ذلك يتأوهون وينتحبون.
أخيراً، إن الألم يرفع الشعراء الكبار إلى أوج المعرفة فيرون الحياة كاملة بما ظهر منها سابغة بما اتضح، ويرون كذلك الشعلة الإلهية التي تنير لبّها وحواشيها، الشعراء الكبار، مثل أبي العلاء، قاسوا من آلام الحياة أشدّها وأنواعها لما كان في زمانهم من جهل وظلم ووهم وفساد، ولكنهم لم يبكوا، لا، لم يذرفوا الدموع، بل كانوا ثائرين متمرّدين داعين للثورة والتمرّد، داعين لجهاد الظلم والظالمين.