«آنّا كارنينا»… كحقيقة ذات أهمية خاصة

تأليف: فيودور دوستويفسكي – (يوميات الكاتب، عدد: تموز – آب) 
ترجمة: د.ثائر زين الدين

حدث والتقيت هذا الربيع ذات مساءٍ أحدَ الكتاب الذين أحبهم حباً جماً وقد كان من النادر أن نلتقي، فإذا حصلَ، جاءَ الأمرُ مصادفةً، وخلال فتراتٍ متباعدة تمتدُ شهوراً. إنه أحد الأعضاء المهمين في مجموعة الخمسة أو الستّة من روائيينا، الذين من المتعارف تسميتهم بــــ «البارزين» .
إن النقد يميز هؤلاء من غيرهم من الناشرين، ويتابع أعمالهم فور نشرها، وقد غدا الأمر سنّةً منذ زمن طويل. عدد هؤلاء الخمسة «البارزين» لم يَزدَدْ.
أنا شخصيّاً أحبُ أن ألتقي هذا الروائي اللطيف المفضّل عندي، وأحبُّ أن أثبت له – على هامش أحاديثنا– أنني لا أصدّق، ولا أريد أن أصدق أبداً، أنه أصبح هرماً – كما يقولُ عن نفسه– وأنه سيتوقف عن الكتابة. وكنتُ في كل لقاء قصير معه أخرجُ بشيءٍ عميق أرددُهُ وأستذكرهُ عنه. وفي هذهِ المرّة كان ثمةَ ما يمكن الحديثُ عنه «آنا كارنينا» وكنت للتو قد فرغتُ من قراءة الجزء السابع منها وهو الذي يختم الرواية – في مجلة «روسكي فيستنك» لم تبدُ على وجهِ محدثي علاماتُ الحماسةِ الشديدة ومع ذلك فقد أدهشني رأيه الصلب والواضح عن «آنا كارنينا»:
– هذهِ رواية لم يُسمع بمثلها من قبل ، إنها الأولى. أي كاتبٍ من كتابنا يمكن أن يقدم عملاً يساويها؟ ومن في أوروبا يستطيع أن ينتج شيئاً مماثلاً؟ بل هل كان في أدب الأوروبيين خلال السنوات الماضية، وقبلها بكثير، إنتاجٌ أدبي يضاهيها؟
إن ما أدهشني في هذا الرأي – وهو المهم – تلك الإشارة التي أوافق عليها، الإشارة إلى سؤال مهم محاطٍ بسوء الفهم دائماً.قد أصبح الكتابُ في نظري مباشرةً بمنزلةِ حقيقة واقعة، يمكن أن تكفل بإجابةِ أوروبا عوضاً عنا، إنه يمثل الحقيقة التي نستطيع أن نلفت انتباه أوروبا إليها. بالطبع سيهزأ الأوروبيون منا ويضحكون ويقولون: إن هو إلّا أدب، إن هي إلا رواية، ومن المضحك أن نبالغ في الأمر ونضخم هذا العمل حاملينه إلى أوروبا؟! أعرف أنهم سيضحكون… لا تقلقوا… إنني أنظر بوعي تام للمسألة ولا أضخم الأمر: أعلم أنها ليست إلا رواية، ليست إلا قطرة واحدة مما هو مطلوب. ولكن الأمر الأساسي في اعتقادي أن هذهِ القطرة وجدتْ… موجودة فعلياً كحقيقة.. وأن العبقري الروسي استطاعَ أن يخلق هذهِ «الحقيقة»، مما يدلُّ على أنه ليس محكوماً بالضعف، ويمكنه أن يبدع .. وأن يقدم ما هو خاص «به» أن يبدأ كلمته «الخاصة». ويخرجها إلى الملأ حين يحين الوقت. زد على ذلك أنها ليست قطرة فقط آخ .. وأنا هنا لا أبالغ: إنني أعرف تمام المعرفة أنه لا يمكنكَ أن تجدَ في واحدٍ من مجموعة «البارزين» هذهِ، بل في المجموعة كلها الشخص الذي يمكنك تسميته – بثقةٍ مطلقة – مبدع القوة أو عبقريّها. فقد عرف أدبنا ثلاثةَ عباقرةٍ من أصحاب «الكلمة الجديدة» لا نقاش حولهم، ثلاثة فحسب هم: لومونوسف وبوشكين، و إلى حد ما غوغول .إن مجموعة «البارزين»تلك بمن فيهم كاتب «آنا كارنينا» خرجت مباشرةً من مدرسة بوشكين ، أحد الأشخاص الروس العظماء، الذي مازالَ غير مفهوم ولا زالَ حظّهُ من الدراسة عادياً. إن فكرَ بوشكين ينطوي على فكرتين أساسيتين وكلتاهما تضمن رسم المكانة المستقبلية لروسيا، وتحديد هدفها المستقبلي… أي هدفنا جميعاً.
الفكرة الأولى: عالمية روسيا.
قدرتها على الاستجابة وصلة قرابة عبقريتها الحقيقية والعميقة بعبقريات العصور كلها وشعوب العالم جميعها، إن هذهِ الفكرة التي عبر عنها بوشكين ليست مجرد تعاليم أو نظريات أو توجيهات، وليست حلماً أو رؤية لا… «لقد جسدها هو نفسه على أرض الواقع»: إنه إنسانُ العالم القديم، وهو الألماني ، وهو الإنكليزي العالم بمواطن عبقريته الخاصة وتوقه إلى تحقيق طموحاته«وليمة في زمن الطاعون», وهو شاعر الشرق كذلك فقد أعلن لكل تلك الشعوب أن العبقري الروسي يعرفها ويفهمها جميعاً، التقى أفرادها كواحد منهم، واستطاع أن يتقمصهم بشكل كامل، مبيناً أن العالمية بمحتواها الإنساني ممنوحة للروح الروسية قبل غيرها وهو القادر على إدراك المستقبل وتوحيد القوميات المختلفة ونزع ما يفرق بينها من متناقضات.
الفكرة الثانية:
أما فكرة بوشكين الثانية فتتجلى في تحوّله إلى الشعب والاعتماد عليه وعلى قوتهِ فقط وفي توصية مفادها: إن في الشعب وحده نستطيع أن نجد مصادر العبقرية الروسية كلها والمهمات الملقاة على عاتق هذهِ العبقرية. إن بوشكين لم يشر إلى ذلك فحسب، بل كان أول من اندفع إلى العمل. منذ بوشكين بدأ التحول الواعي والحقيقي باتجاه الشعب ، وقد كان ذلك مستحيلاً قبله. إن مجموعة هؤلاء البارزين عملت على هدي بوشكين ، ولم تقل جديداً غير ما قاله. كل أصولها تعود إليه، وتتفرع منه. بل لعلها لم تنجز إلا جزءاً بسيطا من توجهاته ومع ذلك فقد حققوا شيئاً جميلاً، ولو كان بوشكين حياً لاعترف لهم بذلك.

«آنا كارنينا»: ليست شيئاً جديداً بالطبع، وفكرتها ليست جديدة بحيث نقول إننا لم نسمع بمثلها عندنا ولكننا نستطيع عوضاً عن ذلك أن نشير لأوروبا إلى المصدر الأساسي أي إلى بوشكين نفسه، كإثبات قويٍ ساطعٍ، غير قابل للنقاش على استقلالية العبقرية الروسية، وعلى حقها في أن يكون لها دور عظيم في توحيد الإنسانية مستقبلاً. «آه مهما قدمنا لهم ووجهناهم، فإنهم سيعدّوننا ولزمنٍ طويل خارج أوربا. حتى لو اعترفوا بأننا جزء من أوروبا، فسيكون من الصعب عليهم فهمنا، وتقدير أهميتنا. نعم ليسوا قادرين على تقييمنا، ليس بسبب ضعفٍ في ملكاتهم، بل لأننا – كما يرون – قد أتينا من عالم آخر، ربما من القمر!.
ومن ثمَّ فمن الصعوبة بمكان أن يسلموا بوجودنا. إنني أعي كل ذلك وأتحدث عن فكرة «إرشاد أوروبا», أتحدث عن ذلك انطلاقاً من قناعتنا الخاصة في حقنا بالاستقلالية أمام أوروبا”.
على كل حال فإن «آنا كارنينا» هي الكمال… كإنتاج أدبي، جاء في قوته، إنه عمل أدبي لا يمكن مقارنته بأي عمل آخر في الأدب الأوروبي في الوقت الحاضر. والأمر الآخر أن هذا الكتاب لنا ومنا، وهو يشكل خصوصيتنا أمام العالم الأوربي، «وكلمتنا الجديدة»القومية، أو على أقل تقدير البداية باتجاهها. هذهِ الكلمة التي لم يسمع عنها من قبل في أوروبا، وهي ضرورية لها بدرجة كبيرة، على الرغم من كل اعتزازها بنفسها. إنني لا أستطيع أن أخوض في النقد الأدبي، لكنني سأقول في هذا السياق كلمة صغيرة، إن عمل «آنا كارنينا» عبر عن الذنب الإنساني والجريمة الإنسانية. فقد قدم شخصيات في ظروف غير عادية. وكان الشر موجوداً قبل تلك الشخصيات، التي أجبرت على دخول دائرة الكذب. إنها شخصيات ترتكب الجريمة وتقتل دون مقاومة, وكما هو ملاحظ فكرة العمل من الموضوعات القديمة والمفضلة أوروبيّاً. لكن كيف تحل مثل هذهِ المسألة في أوروبا؟.
هناك تُحل في كل الأمكنة وفق طريقتين:
الطريقة الأولى: تتمثل بوجود القانون الذي كُتب وشكلَ على مدار آلاف السنين، وفيه الخير والشر محدّداً الملامح، فقد عمل حكماء الإنسانية التاريخيون على تحديد حجم كل منهما ودرجته وأمر بتطبيق هذا القانون المعد إلى حدٍ ما بشكلٍ أعمى. فمن لا يتبع هذا القانون ويتجاوزه – يدفع الحرية والأملاك والحياة – يدفعُ دون رحمة . «أنا أعرف – تقول حضارتهم – بأن فعلنا أعمى وغير إنساني، ومن الممكن إعداد تصور نهائي للإنسانية ونحن في وسط الطريق، لكن طالما أن لا مخرج من الحالة، فيجب اتّباع قانوننا المكتوب وتنفيذهُ حرفياً ودون إنسانية، وإن لم نفعل ذلك فسنسير إلى الأسوأ. ومع ذلك وبغض النظر عن سخافة ما نسميه نحن حضارتنا الأوروبية العظيمة وشذوذ تنظيمها، فلندع قوة الروح الإنسانية تضيف الأشياء الصحيحة والصالحة، ودع المجتمع يثقُ بأن الحضارة تسيرُ نحو الكمال، ولا تدعه يتجزأ أو يفكر بأن المثل الأعلى السامي والرائع أصبح قاتماً، وأن مفهوم الخير والشر ينحرف ويتشوه، وأن الصحيح يتبدل دائماً إلى نقيضه… وأن البساطة والطبيعية تموتان بسبب ضغط الكذب الذي يتجمع باستمرار!».
أما الطريقة الثانية: فهي نقيضةُ ما سبق:«بما إنَّ المجتمع مشكّل بطريقةٍ غير صحيحة فليس لك أن تسأل أفراد هذا المجتمع عن نتائج أفعالهم. أي أن المجرم غير مسؤول، والجريمة ومن ثمَّ غير موجودة، ولكي ننتهي من الجرائم والأخطاء الإنسانية يجب أن ننتهي من تشوه المجتمع وتركيبته الخاطئة. وبما إنَّ علاج النظام القائم للأشياء سيكون طويلاً ودون فائدة، وماعرفنا له دواء حتى الآن، فيجب هدم هذا المجتمع وكنس النظام القديم بمكنسة!, وعندها تستطيع أن تبدأ ببناء كل شيء من جديد، وعلى أسس أخرى، مازالت غير معروفة، ولكنها بطبيعة الحال ليست أسوأ من أسس النظام الحالي، ومن ثمَّ فهي قادرة على تحقيق النجاح .
ولاسيما حين اعتُمِدَ العلم أساساً لذلك… وعليه فالحلُ الثاني كما رأينا يتجلّى: في انتظار عش النمل المستقبلي وإلى حينها يمتلئ العالم بالدم. إن عالم أوروبا الغربية لم يقدم أي حلول أو طرائق أخرى لمسألة الذنب والجريمة بينما عالج كاتب «آنا كارنينا» المسألة بوضوح، ورأى أن لا عش النمل ولا أي انتصار «للفئة الرابعة», ولا أي قضاء على الفقر, ولا أي منظمة للعمل يمكن أن تنقذ الإنسانية من انحرافها, أي من الذنبِ والجريمة, فقد عبر عن ذلك من خلال معالجةٍ نفسيةٍ عميقة للروح الإنسانية, وبقوة سبر نفاذةٍ مهيبة, وصور كل ذلك في رواية أدبية واقعية لا يوجد مثيل لها عندنا حتى اليوم.
إن الشر يسكن الإنسانية بشكل جلي وواضح, أعمق مما يتصوره الحكماء – الاشتراكيون, بحيث إنَّ أي رغبة لبناء المجتمع لا تستطيع أن تتجنب الشر, والروح الإنسانية تبقى نفسها – مهما حدث – والانحرافُ والذنب يصدران عنها نفسها, وأخيراً علينا أن نعترف أن قوانين الروح الإنسانية, غير معروفة وغير مكتشفة من قلب العلم وهي إلى الآن غير محددة, بحيث لا تجد حكماء في هذا المجال أو «قضاة نهائيين», لكن هناك من قال: «الانتقامُ عندي ووفق ما اقترفت يداك» .

وهو وحده العالم بشر هذا الكون وبمصير البشرية النهائي, الإنسانُ لا يستطيعُ حتى الآن أن يأخذ على عاتقه حل أي مسألةٍ بفخرٍ كاملٍ ببراءته. لم يحن الوقت لذلك . إن القاضي الإنسان يجب أن يدرك أنه ليس قاضياً نهائياً, وأنه نفسه مذنب, وسيكون الميزان والمقياسُ في يده من السخافة بمكان «إذا» لم ينحنِ وهو يحملها أمام قانون آخر سريٍ وقائم على الحب والتسامح.
ولكي لا يموت الإنسان جراء يأسه وعدم فهمه لمصيره وطريقه, وجراء قناعته استحالة تجنب الشر السرطاني السري, فقد أُشيْرَ إلى المخرج. وبشكل رائع في الجزء العبقري من الرواية, في الفصل قبل الأخير منها, في مشهد المرض المميت للبطلة, عندما ظهر المجرمون والأعداء فجأة في صورة كائنات سامية تحكمها الأخوة, وتسامح بعضها بعضاً, ومن ثمَّ تطرحُ من نفوسها بفعل ذلك الكذب والذنب والجريمة. وتبرئ ذاتها مباشرةً وهي في وعي كامل, وقد حق لها ذلك. ولكن بعد ذلك, في نهاية الرواية, في مشهد مخيفٍ وكئيبٍ لسقوط الروح البشرية ومرسوم بتتابع مدهش وحثيث, يقدم حالة لا تقاوم, يوم سيطر الشر على الكائن الإنساني, وقيد كل حركة من حركاته, وشل مقاومته, ونوازعه الفكرية في الصراع ضد الظلمة, التي تسقط الروح – عن قصد – بشغف الانتقام. في هذه اللوحة قدر كبير من الموعظة للقاضي الإنسان, لحامل المقياس والميزان. الذي سيصرخ بالتأكيد فزعاً: «لا ليس الانتقام عندي دائماً, وليس وفقاً لما اقترفت يداك»– ولن يحمل المتهم ذنباً دون أي شعور إنساني, لأنه استهان بنور الهداية الأبدي المعروف, ورفضه «عن سابق إصرار وقصد». فإذا كان لدينا مثل هذا الأدب الراقي بفكرته وقوته وتطبيقه, فلماذا لا يكون لنا «بالنتيجة» عملنا «الخاص», وقراراتنا الاقتصادية والاجتماعية الخاصة, لماذا ترفض أوروبا الاعتراف باستقلاليتنا وبأن لنا كلمتنا «الخاصة بنا»؟ – هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه. ومن المضحك أن نقر بأن الطبيعة منحتنا عبقرية أدبية فحسب. أما ما تبقى فهو سؤال التاريخ والظرف وشرط الزمن: هكذا على أقل تعبير يمكن أن يفكر أوروبيوننا, بانتظار أن تظهر فتاوى أخرى…

آخر الأخبار
New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق The national interest: بعد سقوط الأسد.. إعادة نظر بالعقوبات على سوريا بلدية "ضاحية 8 آذار" تستمع لمطالب المواطنين "صحافة بلا قيود".. ندوة لإعداد صحفي المستقبل "الغارديان": بعد رحيل الديكتاتور.. السوريون المنفيون يأملون بمستقبل واعد باحث اقتصادي لـ"الثورة": إلغاء الجمرك ينشط حركة التجارة مساعدات إغاثية لأهالي دمشق من الهلال التركي.. السفير كوراوغلو: سندعم جارتنا سوريا خطوات في "العربية لصناعة الإسمنت" بحلب للعمل بكامل طاقته الإنتاجية الشرع والشيباني يستقبلان في قصر الشعب بدمشق وزير الخارجية البحريني عقاري حلب يباشر تقديم خدماته   ويشغل ١٢ صرافا آلياً في المدينة مسافرون من مطار دمشق الدولي لـ"الثورة": المعاملة جيدة والإجراءات ميسرة تحسن في الخدمات بحي الورود بدمشق.. و"النظافة" تكثف عمليات الترحيل الراضي للثورة: جاهزية فنية ولوجستية كاملة في مطار دمشق الدولي مدير أعلاف القنيطرة لـ"الثورة": دورة علفية إسعافية بمقنن مدعوم التكاتف للنهوض بالوطن.. في بيان لأبناء دير الزور بجديدة عرطوز وغرفة العمليات تثمِّن المبادرة مباركة الدكتور محمد راتب النابلسي والوفد المرافق له للقائد أحمد الشرع بمناسبة انتصار الثورة السورية معتقل محرر من سجون النظام البائد لـ"الثورة": متطوعو الهلال الأحمر في درعا قدموا لي كل الرعاية الصحية وفد من "إدارة العمليات" يلتقي وجهاء مدينة الشيخ مسكين بدرعا