الثورة – لميس علي:
يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن للإنسان خلال فترة عيشه أبعاداً ثلاثة، وهي “الذات، الغير، والعالم”..
وضمن هذه الأبعاد ثمة مسافات تحكم العلاقات فيما بينها.
كيف يمكن قياس المسافات حين تكون منتمية إلى عوالم لامرئية..؟
علماً أن مفهوم المسافة يختلف أحياناً كثيرة عن معنى (البعد)..
حينها، لا تعني المسافات بعداً.. والعكس صحيح.
غالباً يتحدّد وجودنا وفق مسافة زمنية/مكانية.. تمنحنا أبعاداً تقولب أنماط حياتنا..
لكن ثمة نوعاً من مسافات يمكن أن تقاس بوحدة تنتمي لعالم غير ملموس.. مسافات يمكن قطعها لامادياً.. تُختزل حينها أبعاد الأرض وتصبح محصلتها مساوية للصفر.
فعلياً.. ألا يمكن قياس المسافات بوحدة مشاعر تُدعى (الحب)..؟
فالحبّ مسافة عابرة للمحيطات..
وجودنا يتمدّد عبره.. ما يجعلنا نحيا بأبعاد لانهائية..
فضاءات من جماليات لا حصر لها، تملؤها مسافات (الحب).. وكلّما فاض ماء قلبك بالمزيد من الحب، كلما استمر وجودك بالتمدّد إلى ضفاف غير مدركة.
لعلها ضفاف توجد داخلك تعيد اكتشافها.. أو ربما كانت ضفاف الآخر التي تمنحك امتداداً إضافياً..
وبالتالي، هذا النوع من المسافات يُضاعف وجودك.. يؤكّده.. يقوم بتفعيّله بطرق تدهشك أحياناً.
المسافة بينك وبين من تحبّ لا تُلحظ بعين البُعد، إنما بعين الشوق ومضاعفة المشاعر واللهفة..
وحتى لو وجدت مسافة محيطات فاصلة بينكما، كلها حينها تُحسب أطناناً من الحب الموزّع على مساحات شاسعة..
هل يعني ذلك أنه كلّما زادت المسافة زاد الحب..؟
أي وجود تناسب طردي بينهما..؟
ليس بالضرورة..
كما ليس ضرورياً أن إلغاء المسافات وقرب الآخرين يعني امتلاك ذات المشاعر والأفكار.
للمسافة جاذبية خاصة.. كمغناطيس تجعلنا نلتقط أشياء “الآخر” بعين مغايرة، لا نمتلكها في حال القرب.. فتزيد مساحات الشوق..
وكأنما جاذبيتها تزيد من إيجابيتها.. وتغتال ما فيها من إلماحات سلبية..
حينها تتحوّل المسافة إلى مسافة قرب..
وكل الأشياء الكائنة بين طرفين تغدو طارحةً لأي بُعد محوّلةً إياه حالة اقتراب وحنو.. هذا الأخير الذي يعرّفه ميلان كونديرا بقوله: “الحنو هو اجتراح مسافة مفتعلة يرحّب فيها الطرفان بفكرة معاملة الآخر بوصفه طفلاً صغيراً”..
“اجتراح مسافة مفتعلة”.. كم ينطبق هكذا توصيف على المسافة.. وكم تكون واقعياً “مفتعلة”، لكن بحبّ، حين تكون مسافة قرب.