الثورة – عبد الحليم سعود:
لم تتوقف المكيافيلية الأميركية يوماً عن المتاجرة بآلام ومعاناة الشعوب لأن العقلية التي تحكمها مجردة من الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية، وهي غير خاضعة للقوانين الدولية، فالسياسة الأميركية حول العالم محكومة فقط بمصالح النخبة الأميركية الحاكمة مهما كانت النتائج التي تتمخض عنها، ولعل الحرب الدائرة اليوم في أوكرانيا أكبر دليل على مدى انحطاط هذه السياسة ومتاجرتها بتطورات وإفرازات الحرب وتداعياتها، وإذا كان أول نتيجة لهذه الحرب هو فرار المدنيين من ساحات القتال سواء باتجاه روسيا من جمهوريتي الدونباس أو باتجاه بعض الدول الأوروبية المجاورة لأوكرانيا، فإن ردة فعل الإدارة الأميركية الحالية اقتصر على زيارة انتهازية قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن لمخيمات اللاجئين في بولندا ليبيعهم بعض العواطف والمشاعر الزائفة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، في حين لم تستقبل بلاده أي لاجئ أوكراني هارب من جحيم الحرب، ليقع العبء الأكبر على روسيا من جهة وبعض الدول الأوروبية التي وجدت نفسها تدفع ثمن المخططات الأميركية لمحاصرة روسيا بالناتو ومحاولات إضعافها سياسيا وعسكريا واقتصادياً..!
وإذا كان التساؤل يدور حالياً حول المستفيد المباشر من هذه الحرب، فإن الإجابة تبدو شديدة الوضوح، فالولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر ولاسيما أن مبيعاتها من السلاح لأوروبا الخاضعة وكذلك ما يسمى “مساعداتها العسكرية” لأوكرانيا قد تضاعفت بشكل كبير تحت عنوان تقديم الدعم العسكري لمواجهة الطموحات الروسية، والذاكرة القريبة مازالت تحفظ كيف سعت واشنطن لتهيئة أجواء الحرب سواء عبر النفخ برأس النظام الأوكراني لمعاداة روسيا عبر وعوده بالانضمام لحف الناتو ومنع أي تقارب بين موسكو وكييف، أو عبر النشر السريع للمعلومات التي تدعي أن روسيا ستقوم بغزو أوكرانيا، حيث أشعلت هذه المعلومات الحرب قبل اندلاعها وحضرت الأجواء، في الوقت الذي مارست فيه التضليل الإعلامي والتعمية المقصودة بخصوص الاعتداءات اليومية التي كان يشنها المتطرفون الأوكرانيون أو “النازيون الجدد” على المدنيين الروس في إقليم الدونباس، وهو السبب الذي دفع روسيا للقيام بهذه العملية العسكرية لحماية مواطنيها.
البراغماتية الأميركية الساقطة أو العدائية الأميركية تجلت بشكل واضح في العقوبات الاقتصادية القاسية وغير المسبوقة التي فرضت على روسيا، حتى قبل أن تبدأ العملية العسكرية، وهو ما يؤكد أنها كانت جاهزة ومعدة سلفاً وكانت تنتظر سبباً، وقد فوجئ العالم بسرعة إقرارها، فتجميد الأموال الروسية واستبعاد موسكو من نظام سويفت العالمي كان سريعاً وقد أدى إلى تراجع قيمة الروبل الروسي وارتفاع أسعار النفط، وكذلك ساهم بالإسراع في نقل الأموال الأوروبية إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تعزيز قيمة الدولار وأعاد للولايات المتحدة مكانتها المالية مرة أخرى ورفع معدلات صادراتها من الأسلحة وزاد من هيمنتها على القرار الأوروبي.
وفي ظل استبعاد أن تؤدي هذه الحرب إلى احتواء روسيا كما تخطط واشنطن – وقد فضح بايدن نفسه النوايا الأميركية في هذا المضمار – فإن المؤكد والمحسوم أن أوروبا قد دخلت مرحلة من الفوضى والضغوط الاقتصادية القاسية بعد ردة الفعل الروسية على العقوبات الغربية، فقرار الرئيس بوتين بيع الغاز الروسي الذي تحتاجه أوروبا بالروبل، سيضع أوروبا في موقف حرج للغاية، وهو ما سيؤدي حتما إلى انقياد وتبعية أوروبية أكبر للولايات المتحدة دون أن ينعكس ذلك سلاما أو استقرارا أو ازدهارا في القارة الضعيفة.
لقد أظهرت هذه الحرب مرة أخرى الوجه الحقيقي القذر للولايات المتحدة، فهي تستغل الحروب والأزمات لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وهذا ما يجب أن يكون بمثابة إنذار للدول المعتمدة على واشنطن أو التي تثق بها.
