مقهى الروضة وبقايا صور

الملحق الثقافي: مصطفى المقداد:

يتلازم الزمان والمكان ، فيتغير الأول ويتبدل ، ويثبت المكان شاهداً على المتغيرات والأحداث ليروي قصصاً وحكايات من عبروا ذلك المكان وما ترك بهم من تأثيرات ، فمارسوا نشاطات وعقدوا اجتماعات وأقروا اتفاقات وعاشوا خصومات وربما رسموا خطوط مؤامرات وخدع تركت آثارها على امتدادات واسعة.
في دمشق كما في عواصم ومدن كثيرة ، ثمة نواد ومقاه وصالات وقاعات اجتماعات ومكتبات وأسواق وملتقيات اجتماعية ومراكز ثقافية وغيرها تركت آثاراً عصية على النسيان وأخرى ثابتة كوقائع تاريخية في مسيرة البلد.

وقد عرفت سورية، ودمشق بخاصة على امتداد تاريخها الحديث الكثير من الأماكن التي شكّلت محطات تاريخية مهمة ، فقد كان فندق الشرق ملتقى الموفدين والمبعوثين الدوليين بالشخصيات السياسية والاجتماعية الوطنية بداية القرن العشرين
كما كان مقهى البرازيل في منطقة الطاووسية وسط دمشق ملتقى المثقفين العاملين في السياسة ، وكان الوزراء يعرجون عليها قبل وبعد جلسات مجلسي الشعب والنواب ليقفوا على ردود الأفعال الشعبية على قراراتهم وسلوكهم ، وكان الأديب عبد السلام العجيلي يرتادها في عودته من الوزارة ويخشى أن يسجل تأخيراً أو انقطاعاً .

وكان مقهى الهافانا واحداً من المحطات السياسية والثقافية الهامة في تاريخ سورية الحديث ، فقد كان زكي الأرسوزي يجلس به إلى طلابه وأصدقائه يحدثهم عن العروبة ويبعث بهم الروح العالية ، وفي ثمانينات القرن العشرين تم تحويله لمحل بيع ألبسة لعدة أشهر ، وعندما وصل الخبر للرئيس حافظ الأسد أمر بإعادته بصورة حديثة حتى لا يلقى مصير مقهى البرازيل ومقهى الرشيد الصيفي الذي استضاف البعثيين في نيسان ١٩٤٧ ليعقدوا مؤتمرهم التأسيسي ويعلنوا تأسيس حزب البعث العربي.

تلك أماكن سادت فترة ثم بادت وانتهت ودخل بعضها ميدان النسيان ، لتبقى أماكن أخرى ثابتة صامدة عصية على الموت والاقتلاع وإن عانت تغييرات مختلفة.
وهنا يقف مقهى الروضة في شارع العابد بدمشق شاهداً على القدرة على مواصلة الحياة في كلّ الظروف ، فهذا المقهى أنشىء قبل مئة عام ليكون سينما صيفية ، لكنّه ما لبث بعد سبع سنوات ليتحول إلى مقهى يستقبل النواب بعد خروجهم من اجتماعات مجلس النواب وتتوسع دائرة مرتاديه من المثقفين والفنانين والسياسيين والصحافيين والشعراء والرواة والدبلوماسيين العرب والأجانب والسياح ذوي الميول السياسية ليشهد نشاطات واجتماعات الكثير من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في الحياة العامة.
عرفت مقهى الروضة قبل أربعة عقود تقريباً كنت دائم التردد عليه ، ولم أنقطع عنه إلا خلال أسفاري وزياراتي الخارجية ، وكنت أواسي مكاني الأثير بزيارته فور وصولي من الخارج في كثير من المرات ، فكنت لا أذهب من المطار للبيت ، بل أعرج على الروضة لأكتب مقالاً أو ألتقي أحداً أو أقرأ وأطالع الصحف والمجلات والكتب ، أو المواقع الالكترونية في الفترات الأخيرة.
كان مقهى الروضة في بداية معرفتي به مبهراً إذ كان المتنفس والملتقى ، ففي كلّ زاوية منه مجموعة تجلس بصورة دائمة ، ففي الجانب الأيمن من المدخل الخارجي كان كلّ من الفنان دريد لحام ونهاد قلعي يجلسان وهما يحضران النص الكتابي لعمل فني قادم ، وفي الصدر تجلس مجموعة من كبار الموظفين المتقاعدين الذين يستخدمون ساعات الجيب ويلبسون البدلات الرسمية ، فيما يعود دريد لحام ليجالس محمد الماغوط في ساعات الصباح الباكر يعكفان تنقيح وتصحيح نص مسرحي سيأخذ طريقه إلى الخشبة في عرض مثير .
خلال العقود الثلاثة الأخيرة احتل الفنانون والصحفيون المشهد العام في مقهى الروضة ، فكانت الكتب والمشاريع المكتوبة والصحف والمجلات والأوراق البيضاء ومجموعات الأقلام الملونة تجاور فناجين الشاي والقهوة على الطاولات ، حتى إن كثيراً من القراء يطالعون الصحف اليومية ويتركونها فوق الطاولات لمن يأتي بعدهم .
كبار الأدباء والفلاسفة والشعراء سجلوا حضوراً لافتاً في فترات طويلة ، وكان حضورهم طقساً مقدّساً يجري تفقده من مراقبين كثر ، ويتم السؤال والاستفسار في حال الغياب أو الخلل أو حتى تغيير مكان جلوس أحدهم ، فهذا عادل أبو شنب يجاور البحرة وسط الصالة الداخلية، أما نصر الدين البحرة فكان من الزوار المقلين ولا يرتبط بوقت محدد، فيما شهدت نهايات القرن الماضي حضوراً جماعياً شبه دائم لكلّ من عبد الرحمن منيف وفيصل دراج وسعدالله ونوس وهم يعدون لمشروعهم الثقافي بعيداً عن مشاغل رواد المقهى الآخرين ، ليحتل برهان بخاري ذلك الدور بدايات العقد الأول من القرن الحالي في عقد لقاءات وحوارات ثقافية تطرح إشكاليات الفكر العربي وهموم الثقافة العربية ومكانتها على الساحة الإنسانية.
ولعب ذات الدور فؤاد بلاط على مدى سنوات من خلال اختيار يوم الجمعة موعداً لبحث مسألة ثقافية أو فلسفية أو فكرية والحديث في الكثير من المتناقضات والمتضادات.
ثبت المكان واستضاف سفراء ووزراء سابقين وزواراً عرباً وأجانب وفارين سياسيين من معظم الدول العربية ، وإن كان العراقيون أكثرهم حضوراً في ساحة الروضة ، حتى أنهم أوجدوا دليلاً لهم لا يكاد يفارق الروضة على امتداد النهارات وعلى مدى أربعين عاماً تقريباً ، فظروف الهروب من العراق من سبعينيات القرن الماضي استدعت وجود (أبو حالوب ) كمركز استعلامات يجلس في الروضة بالقرب من الباب الأوسط ، شتاءً من الجهة الخارجية ، وصيفاً من الداخلية ، وعنده أخبار كلّ من خرج من العراق وعبر سورية لينتقل إلى أي نقطة في العالم ، فكان ( أبو حالوب) عامل مقسم الهاتف البشري وهو العنوان الدائم لكلّ العراقيين ، ورحل( أبو حالوب) منذ عدة أشهر بعد أنّ أعياه التعب والشيخوخة فغادرعائداً دون أن يعرف اسمه الحقيقي إلا عدد قليل قد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، فهو لبيد التميمي الذي نذر نفسه لتأمين عناوين كلّ المهاجرين العراقيين على امتداد عدة عقود ، وبقي مكانه حاضراً في ذهن ووجدان كلّ رواد مقهى الروضة.
صحيح كان ثمة مجموعات أساسية ، لكنهم لم يكونوا يلتفتون أو يتلصصون على بعضهم ، فقد كانت كلّ مجموعة مشغولة بذاتها ، وتبدلت الأحوال خلال السنوات القصيرة الماضية ، فغاب الكثير من رموز الروضة وقلما يرتادها أيمن زيدان وعباس النوري وسيف السبيعي ونضال نجم ومثنى الصبح وغيرهم ممن كانوا يشكّلون حالة تفاعلية جميلة ، لتزداد أعداد الصحفيين لأبقى أنا الأقدم باعتقادي من بين زملاء مهنة المتاعب ، وأعترف بأنني أكتب على طاولات الروضة قرابة نصف ما كتبت من مقالات أو تقارير صحفية أو تحقيقات والكثير من المقابلات التي أجريت بعضها ، وكنت أنا المستضاف في الكثير منها.
وتبقى الروضة تقاوم حالة التغيير بكثير من الثبات الذي يمثله مالكوها الراحلون والحاليون من إيمان بدورها الثقافي بصورة أساسية ، قبل الاقتصادي والترفيهي .

التاريخ: الثلاثاء5-4-2022

رقم العدد :1090

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق