الثورة:
لم يتنبه الكثيرون إلى أن النصر الذي أعدته الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي لم يكن إلا نصراً زائفاً لا قيمة له، وهو ليس فقاعات عولمية قد تستمر لفترة من الزمن.
كان يجب على منظري السياسات والثقافات في العالم الانتباه إلى ذلك.. لكن الكثيرين منهم كانوا يهللون لما جرى على أنه نهاية التاريخ وبدء عصر الآخر الأمركة.
المحلل والمفكر الروسي الكسندر بانارين كان صاحب السبق في القراءات العميقة لما جرى، وذلك في كتابه المهم جداً الذي حمل عنوان: الإغواء بالعولمة، وترجمه إلى العربية الأستاذ عيد عياد، وصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق منذ فترة.
الكتاب تبدو أهميته اليوم كما كانت بالأمس وهو قراءة استشرافية رأت ما يجري اليوم من اندحار وانكسار للعولمة التي يرى في قراءة الكتاب الاستاذ شاهر نصر في موقع الحوار المتمدن أنها أي العولمة كما يقدمها المؤلف (مطابقة للأمركة).. ويرى أنّه مع التشدق اليومي والمستمر لعلماء سياسة العولمة المعاصرة بالحداثة والديموقراطية، تتفارق غالبية المكتسبات الجماهيرية التي أنجزت في عصر الحداثة العظيم مع منظومة العولمة المعاصرة، و”هذا يخص في المقام الأول مفهوم الديموقراطية المقدس، أو سيادة الشعب السياسية. فالديموقراطية تعني أن يقوم بوظيفة السلطة من انتخبهم الشعب… الخاضعين لرقابته… أما علم سياسة العولمة فلا يمت إلى هذا بأي صلة. فهو يفترض أن مركز السلطة ومراكز اتخاذ القرار الحالية لا تقيم وزناً لتوصيات الناخبين المحليين، وتعبر عن الاستراتيجيات المتوافق عليها بين التروستات الدولية ـ الاقتصادية والسياسية”، أي يدفن ساسة ومنظرو العولمة (يدفنون) الديموقراطية بمعناها المباشر كتعبير عن السيادة السياسية للشعب الذي ينتخب سلطته، ويراقبها، ويستبدلون بهذه الديموقراطية سلطة وجهاء دوليين.
تكمن جريمة الولايات المتحدة الأمريكية بحق الديموقراطية المعاصرة في أنّها حولتها إلى وسيلة من أجل تحقيق أطماعها الخاصة كدولة عظمى، وبذلك حطّت من قدرها.
هكذا نشهد تكوُّن الأخلاق المزدوجة، واللغة المزدوجة، التي يلعب فيها قسم من المصطلحات الموروثة عن المرحلة الليبرالية الكلاسيكية، دوراً ملفقاً لتخدير يقظة الشعوب… مع اختلاف دعاة العولمة عن رسل التنوير و”طليعيي التقدم” السابقين بأنّهم، عوضاً عن أن يحسنوا الوسط الاجتماعي ـ الجغرافي الوطني، يفضلون مغادرته في الغالب مصطحبين معهم في أثناء ذلك الموارد الضرورية لتطويره.
وفي مقابل المنورين العظماء الذين أنجبهم عصر النهضة، نجد المحتالين والنصابين (العظماء) في هذا العصر.
ولما كان الاحتيال على الأغبياء وغير المتنورين أسهل، لهذا تطوى في عصر العولمة برامج التنوير الجماهيري بحجة أنّها ليست مربحة “اقتصادياً”.
– إضعاف الدولة والتشهير بها..
ويرى ألكسندر بانارين أنّ العولميين يسعون بكل ما في وسعهم إلى إضعاف الدولة الوطنية والتشهير بها ـ تحديداً لأنّها تقف عائقاً في وجه جشعهم العولمي. مع تأكيده على أنّ النخب المعاصرة ـ الاقتصادية والسياسية والفكرية ـ هي التي جعلت الدولة تنحط، مبيناً ولادة ظاهرة جديدة مفادها: “أن تكون من النخبة اليوم، فهذا معناه أن تجعل نفسك في حلّ من المصالح والآمال الوطنية… كانت الشعوب من قبل تضع أفضل آمالها على نخبها الوطنية، كانت النخبة خلاصة التجربة الشعبية، والمعبرة عن إرادة الأمة… أما الآن، فأن تكون نخبة، فهذا معناه، العضوية في أممية سرية ما غير مرتبطة قط بالمصالح الوطنية الحقيقية”.
لقد وضع عصر العولمة النخب الوطنية في منتصف المسافة بين شعوبها، ومراكز السلطة العالمية… وتربط نفسها أكثر فأكثر بقرارات الأممية الجديدة المتخذة من وراء ظهر الشعوب.
– ترويض..
السبيل الناجع لخضوع النخب الوطنية لسلطة المال العولمي هو فصلها عن الشعب، وإبعاد الشعب باعتباره ذاتاً مستقلة في التاريخ وصاحبة سيادة، بإضعاف الشعب تصبح علاقات البيع والشراء شاملة لكافة مجالات الوجود الاجتماعي، ومن الوسائل المتبعة لتفتيت وإخضاع وأبعاد الشعب كمجموعة متلاحمة تعميم وتفعيل ما يسمى بـ”المذهب السلوكي” الذي يعد أساساً للممارسات الاجتماعية والسياسية الخاصة بالمجتمع الأمريكي.
يؤكد هذا المذهب، الذي يعيد الاعتبار العلمي للفردية الأمريكية و”أخلاق النجاح” الأنانية، على المسلمات السلوكية التالية في الحياة اليومية.
كما تسخر مفاعيل الحسية اللااجتماعية في خدمة العولمة، فيحوّل الإنسان على أساس مثل هذه الحسية إلى بهيمي وعلى أساسها تجري عملية “حيونته”… من هنا هذا الدفاع المستميت عن البدائية والقسوة الوحشية.
هكذا يجري تفتيت وتذرير المجتمع لأنّ هدف “ثوريي المذهب النقدي” الحاليين الرئيسي هو تحطيم المجتمع أخلاقياً وتثبيط عزيمته، وحرمانه من القدرة على المحاكمة الأخلاقية، وقلب منظومة التقويمات. ويؤدي ذلك كله إلى إضعاف دور الدولة…
ويبرر ضعف الدولة عملية الترويج إلى فكرة أنّ العالم لم يعد مقسوماً إلى قادرين على التكيف مع السوق، وغير قادرين على التكيف معها باعتبارها آلية الاصطفاء الأفضل طبيعياً فقط، بل هو “مقسوم كذلك إلى أولئك القادرين بمفردهم على إرساء النظام الحضاري لديهم، وأولئك غير المؤهلين لفعل ذلك من حيث المبدأ، ويحتاجون إلى فرض الحماية الخارجية عليهم.”*ص56*
وهذا نشهد في عصر الأمركة ترويجاً جديداً وتبريراً لفكرة الاستعمار والاحتلال…
الأمريكيين، “وأن فكرة إقامة اتحاد سياسي فوق قومي بين النخبتين الحاكمتين، المدعومتين معاً إلى البلوغ بالنظام العالمي والقومي حد الكمال، قد نضجت”.
وبعد استدراج النخبة، تبين أنّ الأمريكيين هم أشباح عولميين يتبعون مصالح دولتهم العظمى، وميالين إلى استعمال المعايير المزدوجة.*ص50*.. ففسروا النظام العولمي والسلطة العولمية بأنّه نظامهم وسلطتهم على العالم..
– تسليع الثقافة..
ويشير نصر في قراءته المهمة للكتاب إلى أنه وفي مقابل الثورة الثقافية، التي دعا بناة الاشتراكية الأوائل إليها، نجد الثورة الثقافية العولمية، في عالم تقاس السلطة فيه بكمية الدولارات المخصصة للرشوة، وترتبط خصوصيات استراتيجيات الثورة الثقافية العولمية بمفهوم السلعة باعتبارها معياراً عمومياً شاملاً لكل شيء.
ويتبين أنّه من المربح إصدار القصص البوليسية والهزلية والتقويمات الفلكية وتقليص إصدار الكلاسيكيات الأدبية. يدور الحديث حول إكساب ظواهر الحياة والثقافة كلها حرفياً شكلاً سلعياً، وهذا معناه، شكلاً مغترباً، من أشكال القيمة التبادلية… يعتبر الحب، والإلهام، والحقيقة، والجمال في كل ثقافة سليمة قيماً غير معدة للبيع، كذلك لم تكن معدة للبيع القيم الجماعية المجربة: اللغة الأم، وأرض الأجداد المقدسة، والأراضي القومية والمصالح الوطنية والواجب الوطني.
أما السلطة الاقتصادية الدولية، المتمثلة اليوم بسلطة الدولار، فتنظر بغيرة مرضية إلى كل هذه القيم غير المعدة للبيع والمتاحة للجميع. إنّهم لا يكتفون بالموافقة على فاعلية اصطفاء السوق في المجال الاقتصادي نفسه، بل يطالبون: بالوثوق بالاصطفاء الطبيعي للسوق في كل المجالات من غير استثناء… إنّ التحولات التجارية في الثقافة لاتؤدي فقط إلى اضمحلال مؤسسات ثقافية سامية مثل المسرح والفيلارمونيك والمكتبة الوطنية والجامعة وتلاشيها. إنّها ترمز بذاتها إلى ثأر لم يسبق له مثيل في تاريخ الحضارة الإنسانية للعفوية المتوحشة من العقل والثقافية.
-الشمولية الجديدة..
قبل البحث عن البدائل ينوه بانارين إلى المفهوم الأساسي في علم النفس الاجتماعي المعاصر، ألا وهو مفهوم المجموعة المرجعية… فسكان العاصمة يعدّون مرجعية لسكان الأطراف.. ويصبح الغرب مجموعة مرجعية لمجتمعات الجنوب… ومع زيادة “الهوة” الاقتصادية الفعلية بين مركز العالم وأطرافه، تتولد عملية ممارسة المعيار الثقافي الواحد، خاصة عند أولئك الذين لا يقيسون أو يربطون مطامحهم بتجربتهم الواقعية ومحيطهم الواقعي. فتنشأ ظاهرة الاغتراب السوسيوثقافي الجماعي عن المهنة المزاولة وعن الفئة الاجتماعية المنتمي إليها، والتي يعد الانتماء إليها بمثابة الفشل.
وتظهر التأثيرات العولمية حين تأخذ النخب عينُها ترى مجموعتها المرجعية متمثلة في الغرب المتقدم، هنا تحديداً يحصل توافق موال للغرب بين النخب المفتونة والجماهير السائرة وراءها.
تبايع النخب الغرب طوعاً، والجماهير مستعدة لتفهمها فيما يتعلق بهذا الأمر، وعلى هذا التوافق تبنى السياسة الكومبرادورية المعاصرة، حين يحدث الاستسلام في مجال الثقافة ـ أي الاغتراب عن تجارب الآباء وعن التقاليد الوطنية لصالح أخرى مستعارة، فإنّ الاستسلام السياسي يصير مسألة وقت لا أكثر.
هذه هي الجذور السوسيوثقافية والآليات النفسية الاجتماعية للعولمة المعاصرة الموالية للغرب وأمريكا، وقد يوقظ ذلك حساً عرقياً جديداً يشكل خطراً على الأفق الإنساني العام… وخلافاً للإعلان المتباهي عن الانفتاح الديموقراطي والتعددية، وما شابه ذلك، يرى المؤلف أنّ المنظومة الغربية المنتجة والسوسيوثقافية مغلقة منذ وقت بعيد ومتعددة المنطق وغير قادرة على التصحيح الذاتي الملموس.
ويضع مهمة أمام الغرب بأن يبحث عن منبع التطورات القياسية النوعية خارجه ـ أي في ثقافة اللاغرب المعارضة له، بالتالي يمكن أن تتلخص العولمة الإنسانية البديلة، من وجهة نظره، في التركيب الجديد لتجربة حضارتي الشرق والغرب من غير التخلي عن إرث التنوير الأوروبي، لكن بعد تصحيحه…)
لقد استطاع بانارين أن يقرأ ملامح الحراك العالمي القادم واستشراف خطوطه العريضة، ولذا لم يكن مستغرباُ أن تجد مصطلحات هي اليوم بعد أكثر من عقدين من الزمن قيد الاستخدام الكثير مثل: صبية شيكاغو، ومخنثو الأحلام الافتراضية الذين ظنوا أنهم دجنوا العالم، وأن العولمة بل الأمركة لا مهرب منها. وهاهي الآن تتصدع بفعل الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي الديناميكية وحيوية الشعوب الأصيلة لا الهجينة.