الملحق الثقافي:
منذ نصف قرن وكنا لم نشب بعد عن الطوق، ننتظر شهر نيسان بفارغ الصبر، نعد ايامه حتى تصل الى السابع عشر منه، لايهمنا البرد والمطر، صباحا كل شيء جاهز، ثياب تم إحضارها من الليل، أو قبل يومين، خبأها الأهل،
صبيحة ذلك اليوم لن تجد بيتا واحدا يقوم بعمل ما، لا غرس التبغ، ولا غيره و الكل يستعد للذهاب إلى الاحتفاء بيوم الجلاء، أو كما يسمى في المنطقة الرابع، نعم، أماكن محددة تجتمع فيها القرى، ويأتي ضارب الطبل من بانياس، وعلى قرع الطبل تعرف القرى المجاورة أن الاحتفال قد بدأ.
عند الساعة العاشرة والنصف وبعد بقليل تبدأ حلقات الدبكة، ما إن تصل الثانية عشرة ظهرا حتى يغص المكان بمن فيه، أشجار السنديان الدهرية تحولت جذوعها إلى رفوف لحمل البضاعة التي تغري وتشد، وتحت قرب شجيرات أخرى ثمة لهو ولعب، أما الساحة الرئيسة، فهي تتسع للمئات، (حسين) قارع الطبل، يصول ويجول، ومشهد الدبكة لا أروع ولا أحلى، لا تعرف كيف تصف مشهدا يتكرر كل عام مرة، ولكنه يبقى في الذاكرة حتى يعود ثانية.
في صبيحة ذاك اليوم المسمى الرابع (4 نيسان شرقي) حدثان اجتمعا، جلاء المستعمر الفرنسي، والاحتفاء بمواسم الخصب، ثمة من يقف على منصة عالية ويردد أبياتا من الشعر: يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها، ويمضي إلى بدوي الجبل وبدر الدين الحامد، وعمر ابي ريشة، تلهبنا حماسة، ولايكتمل الدرس إلا عندما نسمع ثانية وثالثة قصص البطولة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي.
ابي يروي لي القصة ذاتها: عجزت فرنسا عن الوصول إلى الكثير من القرى لوعورة الدرب، وقوة الرجال وتربصهم بجنودها على أعلى التلل والقمم، بلا سلاح و بالحجارة وحدها يدحرون الغازي، ينكفئ العدو، لكنه يضمر الأمر ويتركه إلى الصيف حين يحصد الأهالي القمح ويجمعونه بمكادس متقاربة، عند الظهيرة تقوم طائراته بقصف كل ما تجمع في المكان، تحترق المكادس، ويذهب تعب العام كله.
مرات ومرات فعلت فرنسا ذلك، في القرى التي استعصت، تنبه القرويون الأبطال إلى ذلك، فحين موسم الحصاد كان المزارع يعمد إلى اعداد بيدر للدرس وحده بعيدا عن الأعين، بين الغابات، قرب ريف صخري، والموسم ليس إلا لسد الرمق والإبقاء على قيد الحياة.
ويمضي أبي قائلا: الناس تحب بعضها بعضا، ويضيف كنت في اللاذقية، اشتري قمحا، وأنا ادفع الثمن جاء المنادي في ساحة الشيخ ضاهر وهو يقول: لا تشتروا القمح اليوم، غدا فرنسا سوف تخفض سعره، سمعت والبائع النداء، فقال لي: أنت حر بشراء القمح أو تركه للغد، فقلت له: لا، ساشتري مهما تم تخفيض السعر غدا، ويردف أبي: دفعت ما يسمى الرعبون، للغد، صباحا كان السعر قد ارتفع مرات ومرات، التاجر الذي عدت إليه قال لي: لن أزيد قرشا واحدا، بل سوف أخفض لك قليلا من سعر الأمس.. وطلب مني أن اسرع بتحميل الأكياس حتى لا يأتي مؤشر السوق الفرنسي ويفرض السعر الجديد على ما تبقى..
يا بني: الناس تحب بعضها بعضا، أنتم جيل قد لايكون هكذا، أتذكر تلك المغارة التي يمنعكم اهل القرية من الدخول إليها؟؟
نعم، هل تعرف لماذا ؟ لا، لأن جنودا فرنسيين قتلوا ودفنوا فيها، كانوا بطريقهم ليلا لإحراق المواسم، اجتمع الناس وقاوموهم، وتمضي قصص الجلاء، تروي البطولات..
أفتح كتاب قصة الجلاء للاديبة الكبيرة كوليت الخوري فاجد الف الف حكاية وحكاية عن البطولات والوحدة الوطنية، ومن المفيد أن ننقل ما اوردته من رسائل جواهر لال نهرو الى ابنته انديرا وفيها يستعرض نضال الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي ويثني على زعمائه الذين قادوا النضال ويتساءل: من اي نبع استقى هذا الشعب الذي ناضل ذلك النضال في سبيل الحرية ؟
أما فارس الخوري فيقول: كانت فرنسا تتحجج بانها في بلادنا لحماية الاقليات، فأنا من هذا المنبر، أعلن أننا في غنى عن هذه الحماية، اما إذا أصرت فرنسا فأنا من هذا المنبر، أشهد ألا إله إلا الله……..
نعم هذا هو الشعب السوري العظيم، من بدء التكوين، هو القوة والعطاء، الجلاء الأكبر يتحقق، وفرنسا ومن معها لن يقدروا على ما عجزوا عنه من سبعين عاما ونيف، لن يبقى على أرض من يدنسها، نعم: يا راقدا في روابي ميسلون افق جلت فرنسا…وانتم شهداء الأمس واليوم، نحن على الدرب ماضون
التاريخ: الثلاثاء19-4-2022
رقم العدد :1092