الملحق الثقافي: دلال ابراهيم:
في مأثورنا الشعبي يصفون الشخص عديم القيمة بأنه ( لا يساوي قشرة بصلة ) تلك القشرة كان لها قيمتها لدى الكاتب الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1999 في روايته ( تقشير البصل ) حيث يعيد الحياة لأشياء طواها النسيان.. وبين تلك الطبقات العديدة تكمن مشاهدات لا حصر لها وقصص مضحكة ومحزنة ومؤثرة.. فيها يضع غراس يده على الجروح النازفة لغاية اليوم، حيث يستعرض فيها ذكرياته المثيرة للجدل أو بالأحرى يتابع خلالها فصول حياته التي بدأها مع روايته ( طبل الصفيح ) ومجاز البصل في عنوان السيرة الرواية ذو دلالة، فالسرد يتم كما تقشير البصل، كل غلاف يفضي إلى غلاف آخر، أو قشر يخفي تحته قشراً آخر، أي قشور تتداخل وتؤدي إلى بعضها.. وهذا ما كان يقوم به غراس في سرد ذكرياته، الحدث يقود إلى حدث آخر.. وبالتالي فإن هذه السيرة الصادرة في عام 2006 غطت أحداثاً حرجة ومهمة من تاريخ ألمانيا والعالم، لكن ما استوقف القراء والنقاد وآثار الغضب والنقمة عليه هي تلك المعلومة التي أخفاها غراس ستين عاماً أي : انضمامه أواخر الحرب العالمية الثانية إلى الوحدات النازية الخاصة ( ss ) وهو في السابعة عشرة من عمره، وقبلها كان ضمن صفوف شباب هتلر.. وقبل صدور المذكرات اعترف الكاتب الألماني إلى صحيفة فرانكفورت تسايتونغ بالحقيقة المخفية، واعترافه الآن إلى الصحيفة يمثل أحد الأسباب التي دفعته إلى كتابة مذكراته، كاشفاً أنه كتبها بعد صراع نفسي حاد وأنه فعل ذلك وفق ما يمليه عليه ضميره.. مشيراً إلى أنه لم يستطع الاستمرار في الصمت ولا بد من تقشير طبقات حياته ومبرراً التحاقه في صفوف تلك الوحدات النازية بأنها نابعة من رغبته آنذاك في التحرر من القيود الاجتماعية والخروج من دائرة الأسرة الضيقة إلى الفضاء الرحب.. والصدمة التي أثارتها اعترافاته أججها كونه كان الأديب الملتزم بقضايا سياسية قومية وعالمية والمعبر عن رؤى واضحة مؤمناً أن ( الأديب ضمير الشعب النابض ) وكذلك بسبب مواقفه النقدية اللاذعة للحقبة النازية ولكن من الناحية الفنية كان غراس يقشر لنا بصل حياته كما يحلو له مستجيباً لشرط الصدق الذي يشترطه منظرو السيرة الذاتية.
أما في روايته القصيرة ( قبو البصل ) يتحدث غراس عن رجل يستقبل زبائنه في مطعم ليس كباقي المطاعم بل هو قبو ملحق به, يقدم للزبائن صحوناً فيها رأس بصل من الحجم الكبير وسكاكين ضمن طقوس غريبة ترافقها موسيقا معينة، حيث يقوم جميع الزبائن والقادمين من شرائح اجتماعية ومهن متنوعة بتقطيع البصل إلى قطع صغيرة جداً لتتناثر هذه القطع هنا وهناك وليبدأ الجميع بموجة من البكاء الجماعي تتلوها اعترافاتهم المتضمنة أسباب قدومهم للمكان وضمن سلسلة الاعترافات تتكشف للقارىء قصصاً في غاية الغرابة.. وبهذا يحقق غراس للزبون المتعة ويزيل عنه ما علق في قلبه من حزن وأسى .. فليس لديهم القدرة على البكاء ( تصوروا ) إلا بهذه الوسيلة ! فيبكون ويبكون وتنهمر الدموع مدراراً.. لكنه ليس البكاء الذي يعتصر القلب وترتجف فيه الأبدان هو تماماً مثل الممثلين حين يضعون في عيونهم مادة تستدر الدمع حينما يقتضي المشهد البكاء والنحيب.. أي تسقط الدموع وتنهمر من زبائن قبو البصل بفعل مؤثر كيماوي وليس بحرقة القلب المضمخ بالألم والهموم، إنها دموع كاذبة ، مزيفة خالية من الإحساس والعاطفة .. ربما كان غراس يرمي منها إلى التكفير عن انخراطه في شبابه مع الشبيبة النازية زمن جيش الفوهرر.
ومن جانبه يتساءل الكاتب استيبان مورينو كورال في روايته ( أناس بصل ) وفيها يصنع من نفسه الشخصية المركزية قائلاً : « ماذا لو كانت الحياة تحتوي على أكبر عدد ممكن من الحقائق والقشور مثل البصل بقشوره المتعددة؟ « يرى كورال أن حياته الروتينية جعلته أشبه برجل بصل أي رجل متعدد القشرات، معقد، رجل بعدة طبقات، رجل مظاهر رجل مجروح رجل محبوب رجل مهزوز رجل محسود رجل خليط ورجل أسرار.. مؤكداً « جميع الرجال والنساء هم بصل والحياة ستكون مضجرة ومملة للغاية لو كنا مجرد قشرة واحدة أي تلك التي تظهر لنا.» وهؤلاء جميعاً تتقاطع مصائرهم، حتى تصبح متشابكة لغاية أن تندمج وتشكل الهيكل العظمي للحياة الشخصية الرئيسية.. وتقشير البصل هو تعريتنا وتجريدنا.. والحياة كفيلة بنزع القشرة عن كل شخص عند نهاية كل مغامرة.. وطبعاً كل طبقة تثير إحساساً وعاطفة وجرحاً خلفته لدى الكاتب الطفولة والهجرة والتوجه الجنسي والأسر الحاضنة والأبوة والأمومة المثلية ونظرة الآخرين إليه وأخيراً الفروقات.
ويستعرض الكاتب آلان بوسكيه في روايته شيكاغو، البصل البري المجتمع الأميركي في محاكاة لبصلة بقشورها المتعددة المتراصة فوق بعضها بحيث تشكل بانوراما للأخلاق والقيم الأميركية في وقتنا الحالي ولا سيما في شيكاغو ومن قشورها يستعرض شبان يافعون يهاجمون سائق سيارة فقط للتنفيس عن توترهم.. وماسح أحذية أسمر يحكي حقائقه الأربع لزبونه الأبيض.. بينما يتبرع ملياردير بمقتنياته الفنية لمتحف اللوفر لأنه يحب الخردل الفرنسي.. فيما يتحدث مصوران اثنان مختصان بالصور الإباحية عن تجارتهم.. ولدينا رجل أعمال يعد العدة لتخريب شركته.. فتاة تعري تحلم بأب لطفلتها.. شخصان غير معروفين يتعرفان على بعضهما خلال الزجاجة الخامسة والسادسة من الويسكي.. مفكر يعد نظرية للدفاع عن الدولار الإله. ناطحة سحاب تمسك بزمام السلطة.
وثمة الكثير من الكتب ومنها المخصص للأطفال تحمل عناوين البصل وقشوره, ولكن لا مجال لاستعراضها الآن.
وفي بحثي عن البصل في كتبنا العربية لم أجد أثراً له أو لقشره سوى في كتب الطبخ .. ولكن رد محمود درويش الاعتبار لمكانة البصل في قصيدته بعنوان ( صاعدا ) والتي غناها مارسيل خليفة وفيها امتزج الحب مع البصل
وللحطاب قلب يمامة
أنساك أحيانا لينساني رجال الأمن
يا امرأتي الجميلة، تقطعين القلب والبصل الطري وتذهبين إلى البنفسج
فاذكريني قبل أن أنسى يدي
ونحن !!! من منا مستعد أن يستعين بالبصل ؟ ليس للطبخ ولا لتقشير طبقات حياتنا وقد أصبحت مجردة وربما حتى من الورقة الأخيرة، بل لاستدرار الدموع في زمن تحجرت فيه مقلنا وخنقتنا عبراتنا وغصت قلوبنا بالألم والقهر الصامت.. وهل يصل بنا الحال إلى أن نحمل في جيوبنا قطعة بصل كلما حاصرنا الدمع وعصي علينا تفجيره نفرك أعيننا بتلك القطعة ؟ حينها لن يكون دمعاً كاذباً بل سيكون بركاناً يقذف حمم ما بدواخلنا.
التاريخ:الثلاثاء26-4-2022
رقم العدد :1093