الثورة – رنا بدري سلوم:
قد يحجز البعدُ الفلسفيّ في رواية “أكثر بكثير” مساحة تفوق أحداث الرواية وصراع بأسلوب روائي مبدع وشائق، فلم يعش “ابن الحرام” “مبروك” حياته بالحرام الذي كان خلاصته، بل شخصية تعيش عزلتها ونظرتها للحياة وفلسفتها الخاصة في صراع التناقضات، ولاسيما حين يقرأ كتاباً ويمر في حدث حياتيّ يمتحنه، ليتساءل أي كفّة الراجحة؟.
لم يكن غريزيّاً ولا انتهازيّاً، لم يتزوج قاصراً ولم يبع جسده لامرأة عرضت عليه الزواج، ولم يخن الصداقة، ولم ينس المكان، فكان وفيّاً، مستغربٌ هذا الأمر من شخصيّة “مبروك” المدمن على الكحول..! والقراءة في آنٍ، نعيش أحداث الرواية معه، البطل الذي ” خرج من بطن أمه وهو” يقهقه” كأنه يعرف أن أمه لم تكن عاقراً، بل كان أبيه العاقر لذلك جاء يقهقه، وفي أقل تقدير، ساخراً!”.
فلسفة خاصة، طرحت تساؤلات الوجود والمعرفة والقيّم والعقل والاستدلال والمناقشة النقديّة واللغة، هي الرواية وتعابيرها ووصف شخصياتها ومواقفها، ونظرتها الواعية للتفاصيل المشهديّة التي أبدع الراوي النجم “بسام كوسا” في وصفها بأسلوب روائي غير تقليدي مختلف لكنه جميل، يؤكد فيه أن الصمت والعزلة قد يصنعان منك فيلسوفاً ولاسيما حين يحتويك الكتاب وتحتويه بكلتا عاطفتك وخيالك، وهنا يكمن الإبداع الروائي، رغم تناقضات الحوار فيه، بأن يتحول “معلّم النول” صديق مبروك إلى حكيم من خلال الأحاديث التي تدور بينهما وهما سكارى في حانة أو أي مكان يجمعهما.
“مبروك” يحتويه المكان ككبشٍ في قطيع، لكنه في الفكر لا ينتمي إليه، هو حرّ لكنه مكبّل ..كمعظمنا ! هكذا مرّ الراوي على قضايا حياتنا الاجتماعية، أضاء عليها بخفّة ورشاقة دون أن يغوص في تفاصيل القضايا وعمقها، ودون أن يخدش الثالوث المحرّم، بل عرّج عليه بطرقٍ خجولة غير مباشرة، مشيراً في الرواية إلى رؤيته لمجتمعه الذي يصعب عليه خلع جلباب التخلف والجهل والفقر والظلم، مجتمع يعالج أوجاعه “بتعويذة” تلك التي تجرّعتها ابنة صديقه أبو ضرغام “سماح ” الحامل التي ابتلعت قطع الورق المقدّس بصعوبة، للشفاء من بثورٍ زرقاء اقتحمت جسدها، حتى توفّيت مع جنينها متسمّمة بالحبر، مجتمع يتغير نتيجة الجشع وحب المال ” تذكرت الشاب الذي تأخر عن دفع المعلوم إليه، كيف كان يغرز برهان إصبعيه في منخريه إلى الحد الذي جعل عيني الرجل تدمعان من شدة الألم والذل.. برهان صديقي المرشح للبرلمان الذي يعد البشر بالحب والعدل والعطاء!”.
وبعد سفر الأستاذ الجامعي عادل السعيد الذي ملأ” فراغ” مبروك والمرجع الفكريّ له، أي بعد نهايات مغلقة لشخصيات الرواية وبعد حبكة وسير الأحداث وتصاعدها، رجع مبروك إلى عزلته مع الإصرار بأن يدلو بدلوه ليكتب “فيض مخيلته واختراعه السحريّ”، فلم تكن الطاولة هي التي منعت مبروك من الكتابة !، “معلّم النول” الحكيم قد اعتزل المهنة، فأهداه طاولته ” مبروك الخائف والمراقب يحسب حركاته بصغيرها وكبيرها، ليس لديه أي شغف في الدنيا غير أن يكتب ” يكتب ما عاشه من جحيم” البؤساء” الذي يغرق فيه، بدءاً من عمله على النول وحراسته للبناية وعمله في المخبز، مروراً بفشله العاطفي ووحشته الاجتماعية، وصولاً إلى حالة يعيش فيها مع نفسه وحيداً يتيما مئة عزلة وقهر وتهميش وظلم وقسوة في العام، ” فما إن تخرج من عزلة وموت بطيء حتى تغوص في مستنقع آخر، وهكذا دواليك حتى يوم القيامة”.
في النهاية، بدأ مبروك الكتابة وعلى رأس الصفحة كتب “مئة عزلة في العام وأكثر.. وأكثر بكثير” الرواية صورة مصغّرة عن حياة اجتماعية نعيشها بمآسيها، هي إسقاطات، بنظرة المثقف ” نحن شيء لا يمكن الإمساك بأي زاوية فيه، عندنا كل شي ولا نمتلك شيئاً، لدينا كل الخصوصيات وليس لدينا أي خصوصية إننا مزيج مبهر من التناقضات”.
حين اقتنيت رواية “أكثر بكثير” إصدار دار “نينوى” للدراسات والنشر والتوزيع، ظننت أن نجاحها مقترنٌ بنجوميّة كاتبها “بسام كوسا”، لكن أيقنت بعد قراءتها أننا أمام روائي ناقد حاذق لم يخرج من بوتقة مجتمعه إلى عالم آخر أكثر جمالاً، بل وظّف ثقافتهُ وعينه الحصيفة لوصف بيئتنا المجتمعية بأدق تفاصيلها، شكلاً ولوناً وحسّاً ومضموناً، ببنية روائيّة جديدة، طرح قضاياها بأسلوب رشيق ورؤية مختلفة فبدت أفكاره مرتكز الرواية الأول، أفكار تتلاطم بداخله كأمواج بحرٍ هائج، قد تضيع بوصلته أحياناً، حتى يرى شاطئاً يرسو عليه، ونرسو معه.