منذ عقودٍ عديدة وأنا أسمعُ أدبيّات من جهات مختصة عديدة، تتحدث عن تشخيص أحوال الاقتصاد والمجتمع، فنسمع كلاماً بمنتهى الدقة والموضوعية، ومن شدّة الإيمان بما يُقال، دخلتْ بعض هذه التشخيصات في المناهج الدراسية لزيادة الوعي وترسيخه بشأنها، وهي على العموم محاولة علاجيّة ناعمة كان لا بد من أن تتبعها إجراءات حقيقة قوية لتثبيت نقاط ارتكازٍ على الأرض تساهم بتسهيل الوصول إلى الهدف.
ومن ضمن هذه التشخيصات – مثلاً – قضية هجرة السكان من الريف إلى المدن، التي حظيت بالكثير من البحوث والدراسات والنقاشات، وكان ثمة إجماعٍ على أن السبب الرئيسي الكامن وراء هذه الهجرة هو سوء الخدمات في الأرياف، الذي أدّى إلى ندرة سبل العيش فيها، والنأي عن إحداث توازن ديموغرافي كلما ازدادت القرى نأياً، في ظل غيابٍ شبه كامل – إن لم يكن كاملاً – لأي مشروعات تنموية حقيقية تساهم في تشجيع سكان التجمعات القروية على الثبات في قراها، على الرغم من كل ما يقال عن ضرورة وأهمية نشر المشروعات التنموية بشكل متوازن بين مختلف المناطق كعلاج فعّال لهذه الهجرة، باعتبار أن هذه المشروعات تساهم بإيجاد فرص عمل، وتحريك العجلة الإنتاجية التي تلعب دورها في خلق مشاريع أخرى متممة تخدم متطلبات المشاريع الأولى، فيتحسّن مستوى المعيشة، ما يزيد من رغبة السكان بالاستقرار والرسوخ.
نحن هكذا يحصل معنا أننا نُشخص ببراعة فائقة، نضع يدنا على الأسباب الحقيقية للحالة، وعلى آثارها وآلامها، ونحدد الدواء وطرق العلاج.. ثم نتوقف! فلا علاج ولا دواء، فتستمر الأسباب والآثار والآلام بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، لتزداد الحالة سوءاً، وتتراكم مع الأيام فتصير حالة مَرضيّة مزمنة ومعقدة، ويزداد حلّها صعوبة وتعقيداً مع كل مُعطى جديد من معطيات الحياة العصرية، الذي يتحوّل في رحاب الأرياف إلى معاناة جديدة تشدّ الناس أكثر فأكثر للتوجه نحو المدينة كملاذٍ للتفاعل مع تلك المعطيات.
خدمة الأنترنت – مثلاً – يمكن أن تعطينا مثالاً فاقعاً لتراكم سوء الخدمات في الأرياف، فهي شبه غائبة، ولاسيما أثناء الانقطاع الطويل للكهرباء، وإن جاءت فهي تأتي – في قريتنا الوادعة – على شكل لمحات عابرة تلتقطها الموبايلات من ترددات هرتزيّة هاربة، وغرامات متناثرةٍ ضعيفة من الكيلو بايتات التائهة، ولم يسعف جمال قريتي – الغافية وسط غابات وأشجار مثمرة، وإطلالة ساحرة على جبالٍ شاهقة جميلة شرقاً وعلى البحر غرباً – بأن تُشكّل استقطاباً لتلك الترددات.
في عطلة العيد وإلى الآن ما أزالُ في وضعٍ محرجٍ جداً من سوء خدمة الانترنت، فلا أستطيع إلاّ بصعوبة بالغة ممارسة التراسل بمختلف أصنافه اللازم لعملي الصحفي، وكنت أنوي المكوث طويلاً، وتجريب إمكانية الاستقرار في القرية، فتوصلت إلى نتيجة يقينيّة أن هذا أمر ممكن.. ولكنه يعني بالنهاية فشلاً محتوماً لعملي.
إن الجهات المتخصصة في توفير الخدمات ستكون أكثر براعةً عندما تكون قادرة على تغطية خدماتها لكل الطالبين، أمّا اقتصار الخدمات على المدن وإبقائها في نطاق رفع العتب في القرى فهي مساهمة قوية في التشجيع على الهجرة من الريف إلى المدينة.. وها أنا ذا أحزم حقائبي.. وقلبي يقول لي: إبقَ .. ولن أفعل.
على الملأ -علي محمود جديد