في إطار رسم استراتيجية فعالة في مواجهة الكيان الإسرائيلي لابد من قراءته من الداخل قراءة صحيحة وتحليلية وموضوعية من خلال تبيان عناصر قوته ونقاط ضعفه ولاسيما أننا لاحظنا خلال الأشهر الماضية من خلال العمليات التي تمت في أكثر من منطقة في فلسطين حالة الخوف والهلع التي يعيشها وهشاشة حالة القوة التي يحاول فرضها أمام الرأي العام داخل وخارج الكيان.
من هنا تأتي أهمية سبر ذلك الكيان وضمن تحليل منطقي بعيد كل البعد عن خطاب الإثارة تقزيماً أو تضخيماً، وهنا نشير إلى أننا أمام كيان نشأ تاريخياً من خلال مشروع وأفكار حملها ساسة ومفكرون يهود عاشوا في أوروبا ضمن جاليات يهودية لم تذوب في تلك المجتمعات بشكل كامل بسبب الثقافة الدينية التي تنشؤوا عليها بأنهم شعب الله المختار وهم وفق ذلك يتميزون عن باقي البشر لذلك عاشوا في تجمعات مغلقة (غيتو) ولم ينصهروا بشكل كامل في تلك المجتمعات التي قامت دولها على فكرة العقد الاجتماعي والمواطنة ما ترك حساسيات عميقة تجاههم بسبب تلك النظرة الفوقية التي اعتملت في وعيهم الجمعي.
وبالعودة للتاريخ يشار إلى القرن التاسع عشر كتاريخ ولادة للحركة الصهيونية وبالتحديد لعام 1897وانعقاد مؤتمر بال في سويسرا الذي دعا إليه المحامي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل، وانبثق عنه مشروع قيام دولة لليهود في فلسطين تحت مزاعم أنها الأرض الموعودة في التوراة لنسل إبراهيم، وعلى خلفية ذلك المؤتمر وضعت استراتيجية تحرك لتحقيق ذلك الهدف تولاها قادة الحركة الصهيونية العالمية مستغلين نفوذهم المالي والعلمي والثقافي في مركز القرار العالمي آنذاك إضافة إلى تحول الإمبراطورية العثمانية إلى حالة من الضعف والتشرذم والصراع وبداية انهيارها واتفاق القوى الغربية ولاسيما بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقاسمها ووراثة الجغرافية الممتدة التي حكمتها لأكثر من أربعة قرون بما فيها المنطقة العربية ومنها فلسطين بوصفها جزءاً من ولاية بلاد الشام وفق توصيف ذلك الزمن العثماني.
لقد أدرك قادة الحركة الصهيونية أنهم لا يستطيعون تحقيق ذلك الهدف الاستعماري الاحتلالي إلا من خلال القوى الكبرى بعد أن فشلوا في الحصول عليه من خلال السلطان العثماني آنذاك بالضغط أو بالإغراء، فكانت وجهتهم بريطانيا التي احتاجت للمال اليهودي والسلاح لتغذية آلة الحرب التي اندلعت عام 1914 لتتحول إلى حرب عالمية استمرت لأربع سنوات وانتهت بانتصار الحلفاء على ألمانيا وتركيا وإيطاليا ووقوع الدول العربية تحت ما سمي الوصاية والانتداب كتعبيرين مخففين للاستعمار، حيث كان نصيب بريطانيا الانتداب على فلسطين والأردن وفق النظام الذي أقرته عصبة الأمم التي تشكلت سنة 1922 لتكون الإطار لنظام دولي يعمل على تحقيق الأمن والسلم في حين أن اتفاقيات كانت قد وقعت بين بريطانيا وفرنسا سميت سايكس بيكو قبل ذلك بعدة سنوات -1916-تتضمن تقاسم تركة الدولة العثمانية بينها وأعقب ذلك بعد سنة تصريح بلفور المشهور والمتضمن نظرة بريطانيا بعين العطف والتأييد لإقامة ما يسمي دولة للشعب اليهودي في فلسطين وبما يخالف كل تعهداتها للعرب وتعارض وتناقض ذلك مع منطق الأشياء والواقع، فكيف تقام دولة على أساس ديني لاتباع ديانة يعيشون حالة انتشار في أغلب دول العام وتنتفي صفة شعب عن جماعة سياسية وثقافية وتاريخية في أرضها التي تعيش عليها منذ مئات بل آلاف السنين.
لقد وفرت بريطانيا المنتدبة على فلسطين والقوى الاستعمارية المساندة لها كل أسباب إقامة ذلك الكيان وإعلانه (دولة) عام 1948 حيث اعتبر تصريح بلفور جزءاً من صك الانتداب وعين هربرت صموئيل مندوباً سامياً لبريطانيا على فلسطين وهو في الحقيقة والدور كان الحاكم اليهودي المعين من بريطانيا ليوفر كل الشروط والظروف لإقامة ذلك الكيان من خلال السماح بالهجرة ومصادرة الأراضي وطرد السكان الفلسطينيين وإقامة بنية تحتية حقيقة لتحقيق الهدف الصهيوني بما في ذلك المستوطنات والمدارس والجامعات والمراكز العلمية والمجموعات العسكرية المدربة وعملياً لم يمر سوى عقدين من زمن الانتداب البريطاني على فلسطين حتى استكملت عملياً عناصر إقامة دولة كاملة يهودية غير معلنة برعاية واحتضان بريطاني صرف، فبريطانيا كانت الحاضن والحامل لجنين غير شرعي جينته صهيونية وحاضنته بريطانية ومنحته وثيقة الولادة هيئة دولية تقع تحت هيمنة قوى كبرى حليفة للصهيونية ومعادية للعرب تاريخياً وتولت الوصاية والولاية على ذلك اللقيط غير الشرعي الولايات المتحدة الأميركية القطب الأقوى دولياً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتراجع دور كل من بريطانيا وفرنسا المنهكتين من إرث استعماري طويل.
ومع ولادة ذلك الكيان وشرعنته بقرار أممي في الشكل وأميركي بريطاني فرنسي في المضمون صدر عام 1947 مخالف لكل الشرائع الدولية وفيه انتهاك لميثاق الأمم المتحدة وعصبتها التي سبقتها انطلق ذلك الكيان الاستعماري الاحتلالي بالتوسع والسيطرة والقتل والإرهاب مستثمراً في عناصر قوة القوى الكبرى التي احتضنته ومستثمراً في الوضعية الصعبة والقاسية للشعب الفلسطيني والعرب على وجه العموم لجهة أن غالبية الدول العربية كانت تحت الاحتلال أو خرجت لتوها منها، وهي تتلمس طريق الاستقلال والتحرر من كل أشكال التبعية والتخلف بعد قرون من الاستعمار والسيطرة بأشكالها المختلفة.
لقد عمل الكيان الصهيوني منذ ما قبل الإعلان عنه على إقامة بنية عسكرية واقتصادية وعلمية قوية ليعوض الفاقد في المساحة والسكان المستوطنين عبر التعويض بفائض القوة المعرفية والاقتصادية والتقانية والعسكرية مع سعي حثيث لإبقاء العرب جميعاً في دائرة التخلف والتبعية والتناحر والحيلولة – إن استطاع – دون قيام أي دولة عربية أو إسلامية من امتلاك أدوات العصر من تقانة ومعرفة وقوة عسكرية أو التفكير بإقامة دولة قومية على مساحة الجغرافية العربية الممتدة واستخدام القوة بكل أشكالها بما فيها قوة النفوذ في مراكز القرار الدولي للحيلولة دون ذلك أي تكريس قاعدة التفوق بكل أشكاله بمواجهة من يراهم خصوماً راهنيين أو في دائرة الاحتمال، وهذه نظرية أول رئيس لوزراء العدو الصهيوني ديفيد بن غوريون والتي تحولت إلى استراتيجية صهيونية بعيدة المدى. والى جانب بناء القوة الذاتية التي أشرنا إليها والمتمثلة بالإنتاج العسكري المتقدم وامتلاك السلاح النووي والتقانة العالية والاقتصاد القوي الذي يستطيل ليصل إلى كل مراكز المال والبنوك والشركات العابرة للجنسيات والحدود عملت الحركة الصهيونية (وإسرائيل)على فتح الأبواب والنوافذ مع كل القوى الكبرى في العالم والتشبيك مع القوى الصاعدة وإقامة أفضل العلاقات الاقتصادية والعسكرية والتقانية معها، فهي اليوم تقيم أفضل العلاقات مع كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية والصين الشعبية والهند والدول الأوروبية وتستطيل في شرايين امتدادها العلمي والاقتصادي في أغلب الدول الأفريقية والآسيوية والأخطر من ذلك الحديث عن ولايات متحدة إبراهيمية وتطبيع مع الأنظمة العربية والسعي لتحويلها من عدو تجب مقاومته بوصفه محتلاً إلى حليف نحن بحاجته بحكم ما نتعرض له من تحديات وأعداء وهميين تجري صناعتهم لحرف البوصلة في الاتجاه المعاكس.
والحال: إذا كان ما أشرنا إليه هو من أبرز نقاط قوة العدو لدى الكيان الصهيوني فما نقاط ضعفه ؟ إن من أبرز نقاط ضعفه أنه كيان قام ويستمر بشكل أساسي على الدعم الخارجي ومن قوى كبرى ويستثمر في فائض القوة المالية والإعلامية التي تمتلكها الحركة الصهيونية بحكم تموضعها في مفاصل القرار الدولي إضافة إلى عدم وجود توازن قوى في الأطراف الداعمة لطرفي الصراع، حيث تميل الكفة لصالح داعمي العدو وحلفائه، وهذا أيضاً عامل متغير ومتبدل وثمة عامل آخر وهو أنه يعتمد على التفوق العسكري، وهذا أمر نسبي وقابل للتغير بتنامي القدرات العسكرية الفلسطينية والعربية المقاومة وجسر الفارق التقني والنوعي بيننا وبينه ومن نقاط ضعفه أنه يعيش في حيز جغرافي محدود لا يمنحه فرصة المناورة العسكرية أو تحمل حرب طويلة ناهيك عن أنه لم يستطع جلب كافة اليهود الموجودين بالعالم حسب ادعائه ويعاني من مشكلة نقص أعداد المستوطنين بالمقارنة مع أصحاب الأرض الأصليين الذين تمسكوا بأرضهم ولم يغادروها ما جعلهم مشكلة تؤرقه بشكل دائم وتشكل عنصر عدم استقرار له، وتشير الدراسات السكانية والديمغرافية إلى أن السكان العرب في الأراضي المحتلة سوف يتجاوز عددهم عدد اليهود خلال عقدين من الزمن ما يسقط استراتيجية التهويد السكاني والمكاني لذلك الكيان ولعل من أبرز نقاط ضعفه هو أنه مازال في نظر أبناء فلسطين والأمة العربية وعدد كبير من دول العالم وشعوبه كيان استعماري موجود بالقوة ولا يملك الشرعية من هنا نراه يسعى بشكل مستمر لانتزاع اعترافاً شعبياً وسياسياً به عبر أزعومة التطبيع التي تبدو مرفوضة من أبناء المنطقة على الرغم من وجود بعض الأنظمة التي تسير في تلك الموجه بمعزل عن إرادة شعوبها.
وبالمحصلة نحن أمام كيان نشأ بالرعاية والتخطيط الممنهج، ويمتلك عناصر قوة ذاتية، ويحظى بدعم من قوى كبرى، ويستثمر في حالة الضعف والانقسام العربي والفلسطيني، ومن هنا يمكننا القول إن عدم الاعتراف به ورفضه شعبياً ومقاومته عسكرياً والتمسك بالأرض وجسر الفارق التقني والمعرفي والعسكري معه والسعي لبيئة دولية متوازنة أو محايدة تجعل إمكانية هزيمته والانتصار عليه ممكنة ومتحققة.