الثورة – هفاف ميهوب:
من يقرأ في أعمال الفيلسوف الفرنسي “سارتر” يشعر بأنه كان إنساناً يتقلب مع الأحداث، ويتفاعل مع متغيّرات عالمٍ شديد الاضطراب.. ذلك أنه كان ابن عصرٍ تابع رحلة الإنسان فيه، فقدّم صورة تصف واقعه وأحواله وهمومه ومشاعره، وبتفكّرٍ وسموّ وصمت، كان يكره أن يداهمهم ضجيج حتى أقرب الناس إليه، ساعياً إلى انتزاع الصور من رأسه، لتحقيقها خارج نفسه، ذلك أنه كان يعتبر أن المؤلّف الأصيل، هو من يكتب كلّ شخصية من الشخصيات التي تزوره أو يلتقيها، فيتقمّصها ليُحيلها إلى كلمات تقلقه قراءتها، وتُشعره بأن هذا القلق مسكون بـإمكانيات مرعبة، وبعالم بشعٍ يعكس الوجه الآخر لقدراته الفائقة…
حتماً كثرٌ من الفلاسفة شعروا بذلك، وبأن الذات البشرية تحتاج إلى تنقيبٍ عميق، لاستخراج قيمٍ وفضائل، تجعل الإنسان صورة تعكس ما يجب أن تكون عليه..
إنها فلسفة، وإن اعتمد “سارتر” الصمت فيها، لتفكيك الإنسان إلى كلماتٍ ومشاعر وتفكير، إلا أن الفيلسوف الألماني “نيتشه” اعتمد فيها الضجيج الأشبه بضجيج المطارق والفؤوس، ذلك أن كتاباته كانت أشبه بحقلِ ألغام، تُوقع من لايجيد قراءتها وتفكيكِ فلسفتها الناسفة، بمصائد وأفخاخ قد تكون مؤذية ومدمّرة…
إنه ما سيلتمسه كلّ من قرأ “نيتشه”، مثلما سيلتمس كيفية ابتعاد هذا الفيلسوف عن أفخاخه، وبعبقريةٍ اعتقد بأنها اختارته لهذه المهمة.. مهمة الابتعاد عن الجميع، والتعويض بالكتابة التي أشعرته بأنه كائن يحفر في العمق بحثاً عن “الإنسان الأعلى”.. إنسان الحكمة والعدالة والأخلاق والفضيلة.. الإنسان الذي سعى لتحريره من كل القيود، ولمواجهة الناس به عبر صرخته:
“أريدُ أن أعلِّم الناسَ معنى وجودهم، ليدركوا أنَّ الإنسان المتفوق، إنَّما هو البرقُ السّاطعُ من الغيومِ السّوداءِ.. إنني أعلّمكم الإنسان الأعلى، إنه ذلك البحر الذي سيُغرق فيه احتقاركم الأكبر.. هل تكلّمتم مرّة هكذا؟!!! هل صرختم مرّة هكذا؟!!!..”..

التالي