أشياء بسيطة أحياناً نمرّ بمحاذاتها – ونحن عابرون – فنتوقف عندها، لا لأهميتها بحدّ ذاتها بالنسبة لنا، ولكن لدهشتنا الكبيرة من خلال مقاربة بعض الحالات التي نطمح إليها في مسيرتنا العابرة، فنستغرب وقتها من المبالغة بطموحاتنا ما دامت هذه المسألة البسيطة متروكة كما هي، تُكدّس المتاعب التي لا لزوم لها، ونستطيع أن نتجنبها .. ولا نفعل.. فتأتينا الصعقة مما يعترينا من إفراطٍ في الطموحات، فمن أينَ لأين سنرى شيئاً من ملامحها ما دامت هذه الحالة البسيطة مستمرة بكل فجاجة لا بملامحها فقط بل بوجودها بقوة شكلاً ومضموناً وبلا اكتراث..؟!
في كل عام تقوم وزارة المالية – مثلاً – بإصدار قرار تُلزم فيه جميع جهات القطاع العام ذات الطابع الاقتصادي، بتخصيص مبلغ محدّد في القرار، كي تقوم كل جهة بتحويل ذلك المبلغ إلى حساب الخزينة المركزية، كمساهمة بنفقات الجهاز المركزي للرقابة المالية..!
الأمر ليس عرضاً استثنائياً طارئاً ولا إسعافياً حتى يمكن هضمه .. فهذا الأمر يكرّر سنوياً بالفعل مع صدور كل موازنة من الموازنات العامة للدولة، والشيء المدهش هو لماذا الإصرار على هذا العناء كله الذي يستلزم الكثير من النفقات غير المجدية ..؟ فقيام كل جهة بتحويل المبلغ المطلوب يعني أن تفتح إضبارة خاصة لهذا الموضوع، أو على الأقل تشرع في تهيئة معاملة كاملة تبرر فيها صرف المبلغ، وهذا يُلزِم أمّار الصرف في كل تلك الجهات البالغة – حسب قرار هذا العام – 187 جهة بأن تُجهز أمر صرف يستند إلى قرار توزيع المساهمة، وهو قرار طويل يصل إلى أربعين صفحة، فمن المفترض أن يصوّر ويُرفق بأمر الصرف، ومن ثم تقوم مالية كل جهة بإعداد كتاب باسم آمر الصرف إلى البنك الذي تكون تلك الجهة قد فتحت حسابها فيه، وعلى البنك أن يتلقى الكتاب ويُجري عملية التحويل المطلوبة، وتزويد الجهة بإشعار يثبت استلام المبلغ وتحويله إلى حساب الخزينة، ثم من المفترض أن تقوم الخزينة بإدخاله إلى الحساب ومن ثم بإشعار البنك بالاستلام..!
تصوروا هذه المعضلة الجهنمية التي لم نستطع التخلص منها منذ عشرات السنين، ففي كل عام على الدولة أن تخسر تكاليف / 187 / معاملة أو إضبارة تتضمن وثائق الصرف وإشعارات الاستلام، لمبالغ زهيدة أصلاً فهي لا تتعدى في هذا العام / 56 / مليوناً و/ 649 / ألف ليرة سورية، كان نصيب مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع منها – مثلاً – لا يتعدى / 130/ ألف ليرة سورية، ما يعني أن حساب تكاليف المعاملة بين الجهود المبذولة والأوقات الضائعة وقيم الأوراق والإشعارات من البنك والخزينة وما إلى ذلك، قد تزيد عن المبلغ المطلوب أصلاً، وهناك جهات مطلوب منها مئة ألف وأخرى خمسين ألف، وغيرها خمسة وعشرين ألفاً، بل وبعضها خمسة آلاف، وهذه كلها مضطرة سنوياً لإنجاز المعاملة نفسها..!
هذا العناء كله يمكن أن ينقضي بتحديد المبلغ المطلوب أثناء إعداد مشروع الموازنة العامة للدولة وتخصيصه للجهاز المركزي للرقابة المالية وتنتهي هذه المعاناة وهذه التكاليف كلها، ولكن لا يهم فلتتكدّس المتاعب وبلا اهتمامٍ ولا اكتراث.
من هنا نشعر بمغالاتنا بطموحاتنا، فإن كانت مثل هذه المسألة البسيطة غير قادرين على حلها .. ونستمر بها .. فكيف لنا أن نطمح بتحسين مستوى المعيشة وتخفيض الأسعار.. أو إحداث توازن بين الدخل والتكاليف، أو القضاء على البطالة ..؟!!
علينا الرفق بأنفسنا والكف عن مثل هذه الطموحات السريالية التي يبدو أننا نحتاج إلى سنين ضوئية حتى تظهر طلائع ملامحها علينا.

التالي