الملحق الثقافي – عمار النعمة:
أبدع نجيب محفوظ عبر أكثر من ستين رواية شخصيات مازالت رفيقة دربنا، صحيح أنها من كلام لكنه استلها من الواقع، ومن هذه الشخصيات شخصية السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثيته المعروفة، هذه الشخصية مازالت محل بحث ودراسة من قبل النقاد وعلماء الاجتماع ومن الدراسات المهمة دراسة قدمها الأستاذ شوقي بدر يوسف ونشرتها مجلة إبداع المصرية في العدد 20 خريف عام 2011 .. يقول :
تبدو شخصية السيد أحمد عبد الجواد كما صوّرها الكاتب في الثلاثية في صرامته وتسلطه وسطوة تحكمه واستبداديته الحاكمة وتحكمه داخل محيط الأسرة وتمسكه الهش بالتقاليد الصارمة وتبدو المفارقة واضحة جلية إلى أبعد الحدود داخل شخصيته فهو صارم في تعامله مع أولاده قاس في معاشرة زوجته مستبد داخل بيته، إلا أن هناك وجه آخر لشخصية السيد أحمد عبد الجواد لايعرفها أحد في أسرته فهو يمثل أسطورة روائية وشخصية فاعلة انعكست سيرتها على قيمة بطريركية في التسلط والاستحواذ والهيمنة، منح نفسه سلطات تفوق آدميته حينما عاتبته على كثرة سهره خارج البيت: أنا رجل، الآمر الناهي لا أقبل على سلوكي أي ملاحظة وماعليك إلا الطاعة فحذار أن تدفعيني إلى تأديبك.
كما يدلل على ذلك أيضاً مشهد تناول طعام الفطور في إحدى الصباحات المبكرة وواضح استدعاء نجيب محفوظ لهذا المشهد العائلي التقليدي ليدلل من خلاله على واقعية ماكان يمارسه السيد أحمد مع أسرته من سمات الهيمنة وسطوته حيال هذه الأمور البسيطة ولكنها لها دلالتها في واقع الأسرة المصرية في ذلك الوقت :
«وجاءت الأم حاملة صينية الطعام الكبيرة فوضعتها فوق السماط وتقهقرت إلى جدار الحجرة على كثب من خوان وضعت عليه «قلّة» ووقفت متأهبة لتلبية أي إشارة.. وكان يتوسط الصينية النحاسيّة اللامعة طبق كبير بيضاوي امتلأ بالمدمٍّس المقلىّ بالسمن والبيض، وفي أحد طرفيها تراكمت الأرغفة الساخنة، وفي الطرف الآخر ستة أطباق صغيرة بالجبن، والليمون والفلفل المخللّين، والشطة والملح والفلفل الأسود، فهاجت بطون الإخوة بشهوة الطعام، ولكنّهم حافظوا على جمودهم متجاهلين المنظر البهيج الذي أنزل عليهم كأنه لم يحرّك فيهم ساكناّ، حتى مد السيد يده إلى رغيف فتناوله ثم شطره وهو يتمتم: «كلوا»، فامتدّت الأيدي إلى الأرغفة في ترتيب يتبع السنّ، ياسين ففهمي ثم كمال وأقبلوا على الطعام ملتزمين أدبهم وحياءهم.
ومع أن السيد كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة وكأن فكّيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف، ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة من شتى الألوان المقدمة – الفول والبيض والجبن والفلفل والليمون المخللّين – ثم يأخذ في طعنها بقوة وسرعة وأصابعه تعد اللقمة التالية، إلا أنهّم كانوا يأكلون متمهّلين في أناة بالرغم مما يحملهم تمهلهم من صبر لا يتفق وطبيعتهم الحامية، كذلك تبرز جوهر العلاقة بين سي السيد وزوجته أمينة في تعنته وتحكمه في أتفه الأمور التي يراها من وجهة نظره حجر زاوية في علاقته ببيته وأهل بيته، خاصة واقعة زيارة أمينة لسيدنا الحسين دون علمه أحس السيد أحمد أن قبضته بدأت تضعف قليلاً في أسرته فأرسل أمينة إلى بيت أهلها ونوى على تطليقها من باب التهديد والوعيد ليس لأنها أخطأت ولكن بدافع الترهيب والوعيد وعملاً بالمثل القائل (اضرب المربوط يخاف السايب).
كذلك كان عندما ينصرف إلى وكالته بالغورية يصبح هو الحاضر الغائب في بيته، ظلاله وملامحه وصورته حاضرة مع زوجته في كل لحظة من لحظات حياتها، فلا زالت أمينة تستدعيه في نسق من تيار الشعور يستخدمه الكاتب لتأصيل واقع شخصيته، وتجسيد أبعاد سطوته على واقع البيت ومن فيه، فتتذكره أمينة خاصة في سهرها وسماعها لصخب الحارة وأصوات السهارى في المقاهى المجاورة: «فتقول: «ترى أين يكون سيدي الآن؟ وماذا يفعل؟ فلتصحبه السلامة في الحل والترحال». أجل قيل لها مرة إن رجلا كالسيد أحمد عبدالجواد في يساره وقوته وجماله – مع سهره المتواصل – لا يمكن أن تخلو حياته من نساء.. يومها تسممت بالغيرة وركبها حزن شديد، ولما لم تواتها شجاعتها على مشافهته بما قيل أفضت بحزنها إلى أمّها، فجعلت الأم تسكّن من خاطرها بما وسعها من حلو الكلام، ثم قالت لها: «لقد تزوجّك بعد أن طلق زوجته الأولى، وكان بوسعه أن يستردّها لو شاء، أو أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وقد كان أبوه مزواجّا، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة» ، كذلك كان السيد أحمد حاضراً في نهج أبنائه خاصة ابنه ياسين حيث ورث ياسين عن أبيه شهوانيته المفرطة والمغالاة في الجري وراء الجنس، حيث كان ياسين: «ثمرة زواج هنية الشهوانية بأحمد عبدالجواد.. فلا غرو أن يتفاعل الجانب الشهواني في شخصية عبدالجواد مع هنية لينتج ابناً لا يجد أي متعة في الحياة إلا في أحضان امرأة، لذلك راح ياسين يتخيل مجلس السيد كما رآه في حجرة زبيدة بين الكأس والعود فما يدرى إلا وقد وثبت إلى ذهنه فكرة غريبة لم تخطر على باله من قبل على شدة وضوحها فيما رأى، تلك هي التشابه بين طبيعتي أبيه وأمه: طبيعة واحدة في شهوانيتها وجريها وراء اللذة في استهتار لا يقيم وزناً للتقاليد، ولعل أمه لو كانت رجلاً لما قصرت عن أبيه في اللهج بالشراب والطرب أيضاً.. لذلك انقطع ما بينهما – أبيه وأمه – سريعاً فما كان لمثله أن يطيق مثلها، وما لمثلها أن تطيق مثله، بل ما كانت الحياة الزوجية لتستقيم له لولا وقوعه على زوجته الراهنة: ثم ضحك ضحكة لم يتح له روعة من هذه «الفكرة الغريبة» روحاً من السرور «لست إلا ابن هذين الشهوانيين.. وما كان لي أن أكون غير ما كنت (بين القصرين).
لقد تغير مركز الأب في السكرية، علاوة على أن المكان كان هو البطل في روايات نجيب محفوظ إلا أن الزمن شاركه في هذه البطولة لتنامي الأحداث حول الزمن وتواترها في تحقيق كل من شخصيات الرواية أدوارهم.. وحين يتزوج ياسين زنوبة عشيقة أبيه تكتمل فضيحة السيد أحمد عبد الجواد وتنكشف ازدواجية شخصيته المستلبة ما بين الورع والفساد والتقى والمجون.
مشهد البداية ووصول السيد أحمد عبد الجواد إلى دكانه فيستقبله وكيله جميل الحمزاوي الباقي معه من ريحة أبيه إلى أن يحضر الشيخ متولي عبد الصمد الذي يعتقد السيد أحمد ببركاته وأحجيته ويتبسط معه دائماً في حضرة الجميع.. استكان السيد أحمد عبد الجواد في السكرية لضعف الصحة فانقاد لحياة الدعة والراحة فكان يمكث في البيت كثيراً وتسيطر عليه أوامر الطبيب، أما رفاق اللهو فكان يستقبلهم قرب فراشه أو حول طاولة النرد والشاي الأخضر، وتقلص سوط إرادته في البيت شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن.. ويموت السيد أحمد عبد الجواد غريباً عن ابنه كمال الذي كان محور الجزء الثاني من الثلاثية، وكان هو الابن الأصغر، كما كان يمثل الجيل الأوسط أو جيل الانتقال.
في هذا المناخ الواقعي العجيب الذي استدعاه نجيب محفوظ من جوهر حياته في حي الجمالية في مناطق بين القصرين وقصر الشوق والسكرية جسّد حالة حياة خاصة من الحالات البرجوازية التي تواجدت في هذه المنطقة وكان تأثيرها في حياة الكاتب وحياة شخصيات الرواية المنتخبين من عمق الأسرة المصرية البرجوازية العائشة حقيقتها كنموذج للأسر المصرية العتيدة عندما جسد شخصية السيد أحمد عبدالجواد وأسرته الكبيرة بأولاده وأحفاده وتاريخ هذه الحقبة من الحياة بكل ما حملت من تراث تاريخي وإنساني وأيديولوجي.
«وتبدي لنا الرواية الأثر العميق الذي يتركه تكشف هذا الوجه الآخر من حياة الأب لعيني أعضاء أسرته، ونتبين أيضاً مسارب الوراثة عن هذا الأب ذي الحياتين إلى فريق من أبنائه، فهذا ياسين قد ورث عنه يقظة الحس وشهواته العارمة، وهذه ابنته خديجة ورثت عنه صلابة الرأي والاستبداد» وتصل الثلاثية إلى ختامها عندما تموت أمينة وتلحق بزوجها السيد أحمد عبدالجواد بعد حياة كانا فيها عماد هذه الأسرة وسر تماسكها.
العدد 1098 – التاريخ: 7 – 6 – 2022

السابق