الثورة – هفاف ميهوب:
كلّما كبر الإنسان في العمر، نضج وعيه وازداد يقينه، بأن الحياة عبارة عن معركة، تُفقده وكلّما تكرّرت واشتدّت مواجهاته فيها، الكثير من الأشياء الغالية عليه، والكثير من الأشخاص الذين يشعرهم نبض حياته، والمعنى الذي شكّّله على هيئةٍ شغوفة، بجمالِ الاكتمال الذي يرتقي به ويعيش فيه..
شيئاً فشيئاً، يبدأ بالابتعاد عن جسد الحياة وينزوي في روحها.. يفكّر بمقدار ما أوجعته وخدعته بمفرداتها، حتى في لحظاتِ استسلامها وبوحها..
يتفاقم إحساسه بوحدته، وبالحاجة إلى الإقامة في الذاكرة حيث نعمته.. نعمة التواصل مع من رحلوا ففقد بفقدانهم جدوى أحلامٍ غيّبتها الحرائق عن وعيها، فباتت بانتظار من يوقظها قبل أن تغمض على ما تبقّى من آمالٍ، عاش يجاهد للحفاظِ على توهّج نورها.
عندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، يقرأ بهدوءٍ وتمعن كلّ ما عانى منه على مدى الحياة التي يشعر أن بإمكانه هزيمتها، والتحرّر من أحكامها وأوهامها بفهمها ومواجهتها..
يشعر أيضاً، بالتصالح مع ذاته، وبالحاجة إلى الإشاحة عن كلّ ما عاناه فيها، دون التحسّر على مافات، أو الضجر من توالي خيباته…
يخلع عنه آلامه ويرتدي القناعة، بأن كلّ ما في الأرض وماعليها، محض هباءٍ للحظاتٍ تتوالى وتمضي بصورها الخادعة.. يعيش ساعياً إلى الهدوء والسكينة الروحية، ويتأمّل الواقع والناس والصراعات بلا مبالاةٍ حزينة..
يفعل ذلك، من كان قارئاً للتاريخ وعارفاً، بأن لا جدوى ولا أمل ولا مصير، إلا الذي يرتضيه الإنسان لنفسه، وسواء كان عاقلاً ومتّزناً ومحبّاً، أو متهوّراً وجاهلا وعبداً.. عبدٌ لجهله وشهواته وعاداته، وللساعين إلى قتلِ الحياة والمعاني والعقل والجمال، بمختلف أشكاله ولغاته..
إنها الحكمة التي تهبها الحياة لكلّ من تجاوز منتصف العمر، والتي لا يمكن أن يمتلكها إلا الإنسان الذي يتّكئ على وعيه، وبخطواتٍ تفقد رعونة سرعتها، وتبدأ بالتباطئ بعد تعثّرها مراراً واستحضاراً، لما كانت عليه قبل منتصف القهر…

التالي