الثورة – فردوس دياب:
هل هكذا يكون رد الجميل لآبائنا الذين حملونا بين أحشائهم، والذين علمونا وسهروا من أجلنا الليالي الطويلة، وكافحوا حتى الشقاء من أجل أن نعيش ونحيا بكرامة وعزة؟.
هي أسئلة بدأت تترامى من حولنا أمام هذا الواقع المحزن الذي أصبح متخماً بالوجع، لاسيما ونحن نشاهد بأم الأعين هذا التردي المخيف في قيمنا وأخلاقنا وعلاقاتنا الاجتماعية.
كنا سابقاً نسمع المقولة التي تقول “من ليس له كبير، فليشتري له كبيراً”، هذه المقولة التي كانت تختزل واقعاً زاخراً بالمحبة والتعاضد والترابط الأسري والاجتماعي الذي تحكمه باقة من القيم الخلاقة والنبيلة التي كانت تدير وتعطر علاقاتنا الأسرية والاجتماعية بعبق الوفاء والإخلاص في رد الجميل لمن فرشوا لنا أجسادهم لنعبر فوقها نحو الحياة والمستقبل.
* تصدع المنظومة الأخلاقية..
اليوم يبدو الواقع أشد وجعاً وإيلاماً من أي وقت مضى، حيث بدأت آثار تصدع المنظومة الأخلاقية تظهر في كل مناحي الحياة، لاسيما في الجوانب الأسرية والاجتماعية، وتحديداً ما نحن بصدد الحديث عنه، وهو جانب الإساءة لكبار السن الذي بات ظاهرة تنتشر بعدة صور وأشكال في مجتمعنا، كنتيجة طبيعية لتآكل إنسانيتنا وتردي قيمنا وعلاقاتنا، سواء أكان ذلك ضمن العائلة الواحدة داخل المنزل، أو ضمن سياق علاقاتنا الاجتماعية بشكل عام.
العديد من الصور والمشاهدات اليومية التي تعكس الإساءة لكبار السن، والتي أضحت تؤذي الروح وتدمي الوجدان، بدءاً من التنمر والتطاول عليهم وقلة احترامهم وإساءة معاملتهم، وليس انتهاء بما نسمعه أو نشاهده على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من وصول الامر أحياناً إلى أن يقتل الأبن أباه المسن ليتخلص من أعبائه، أو أن يقتل الحفيد جده ليسرقه وغير ذلك الكثير ؟.
كذلك هناك مشهد مؤلم نراه يتكرر عند الركوب في المواصلات العامة، حيث يتراكض الصغار والمراهقين والشباب للجلوس على المقاعد، فيما يبقى كبار السن واقفين وقد اختزنت تضاريس وجوههم تعب السنين وقهر الزمان، وهم يرنون بعيونهم نظرة الحزن والوجع إلى هذا الخراب الأخلاقي والإنساني الذي لم يكن موجوداً بهذا الشكل الصارخ فيما مضى، خصوصاً قبل هذه الحرب المجنونة التي أصابت قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا الاجتماعية في مقتل.
* الإهمال والهجر..
للإضاءة أكثر على هذا الموضوع، التقينا الدكتورة منى كشيك الأستاذة في كلية التربية جامعة دمشق التي عرَّفت لنا معنى الإساءة لكبار السن، وحدثتنا عن أشكال الإساءة، وكيف نمنع الاعتداء على كبار السن.
البداية كانت مع تعريف معنى ” إساءة معاملة كبار السن “، حيث أوضحت الدكتورة كشيك أنه يقصد بتعبير “الإساءة لكبار السن ” ارتكاب سلوك متعمد يسيء للمسن، او بالعزوف عن تقديم خدمة يكون محتاجها الأخير.
وأضافت كشيك أن المسيء، أي الذي يمارس الإساءة، يكون ممن يقدم الرعاية للمسنين، مثل الأبناء، أو الشريك، زوج و زوجة، أو الأقارب، أو الذي يرعى كبير السن في دار المسنين، حيث من المفترض من هؤلاء أن يقدموا الرعاية الطيبة لهم.
وعن أبرز صور الإساءة لكبار السن، بينت كشيك، أن معظم الدراسات أظهرت أن أهم صور الإساءة تتمثل بالإهمال، من خلال عدم توفير ضروريات وأساسيات الحياة كالغذاء المناسب و الملابس المناسبة و المأوى والأمن الصحي و الرعاية الطبية، أو من خلال الإهمال السلبي وعدم تقديم الرعاية المناسبة لهم، و يتمثل ذلك في تعمد الهجر والتخلي عن المسن من قبل مقدم الرعاية، خاصة عندما يكون المسن في حاجة ماسة لمعين بسبب المرض، ومن علامات الإهمال سوء التغذية ومشاكل صحية غير معالجة، وعدم توفير مقومات العيش الرغيد، مثل عدم توفير وسائل تدفئة أو مياه صالحة للشرب وما إلى ذلك.
* الابتزاز المادي..
وأكدت كشيك أن من أسوء صور الإساءة لكبار السن تتمثل بالابتزاز المادي من خلال سوء الاستخدام غير الأخلاقي أو القانوني للأموال أو الممتلكات أو الأصول الأخرى لهؤلاء.
مضيفة أن هذا الاستغلال يحدث من خلال إساءة استخدام الشيكات الشخصية، أو بطاقات الائتمان الخاصة بكبار السن، وتزوير توقيع المسن وغيرها.
* الإساءة النفسية والعاطفية..
وأوضحت الدكتورة كشيك أن من صور الإساءة، الإساءة النفسية أو العاطفية للمسن، وهذا يتجسد من خلال تجريدهم من إنسانيتهم، وتخويفهم، وسبٌهم وشتمهم والتقليل من كرامتهم وقيمتهم، أو من خلال تهديدهم باستخدام العنف والتخلي عنهم والكذب عليهم وعزلهم اجتماعيا، أو بعدم السماح لهم باستقبال زوار، أو حجب المعلومات التي من حقهم معرفتها.
إلى جانب الإساءة الجسدية، حيث تقول كشيك إن ذلك يشمل الإيذاء الجسدي عبر أي عمل من أعمال العنف، سواء نتج عنه إصابة جسدية أم لا، ويكون الاعتداء إما بالضرب أو بالبصق أو بالحرق، أو تقييد الحرية، أو باستخدام أدوية تضر به وتحد من حريته، ومن علامات تعرض المسن للإساءة الإصابة بالكدمات (كسور العظام أوكسور الجمجمة وإصابات غير معالجة حروق و جروح غير ملتئمة
وغيرها).
* رد الوفاء والدين..
أما كيف نساهم في معالجة هذه الظاهرة، أوضحت كشيك أن هذا يكون من خلال التمسك بقيمنا وعاداتنا وأخلاقنا التي تدعونا إلى احترام الكبار ومعاملتهم بشكل لائق وحسن، وهذا ليس من باب المنة، بل من باب الوفاء ورد الجميل والديون التي لا يمكن سدادها أبداً للوالدين الذين بذلوا وقدموا لأجلنا كل ما يستطيعون، ولنتذكر دائماً ان أجسادهم الضعيفة والمنهكة تحكي وتجسد تعب السنين الطويلة لتربية الأبناء، وتقديم لهم كل مايلزم، حتى لو كان ذلك على حساب صحتهم، فهم كانوا يمنعون عن أنفسهم مقابل أن يقدموا لنا، ولنضع نصب أعيننا أنه سوف نصبح ويؤول بنا المآل لنكون مثلهم.
وأضافت كشيك أنه من الضروري تقديم برامج توعوية وتثقيفية لمن يعتنون بكبار السن، كما يجب تعزيز المناهج التربوية التي تحض على الاهتمام بكبار السن ورعايتهم وتقديم كل ما يلزم لهم.
السابق