الثورة _ مها دياب :
بعد تداعيات سنوات طويلة من الأزمات الصحية والاجتماعية في سوريا، تنهض مبادرات المجتمع المدني لتؤدي دوراً محورياً في إعادة بناء النسيج الاجتماعي.
من بين هذه الجهود، يبرز مشروع “الإسعاف النفسي الأولي” كنموذج متكامل للتنمية البشرية والمجتمعية، هذه المبادرة، اطلقت بالشراكة بين مؤسسة العمل لتمكين المجتمع (ACES.Syria) وبين جمعية العائلة الطبية، لتؤسس لفصل جديد في مفهوم الرعاية الصحية الشاملة في البلاد.
يقول مدير مؤسسة العائلة الطبية سمير حسن: إن المشروع يهدف إلى إحداث تحول ثقافي عميق، يرى في الصحة النفسية مكوناً أساسياً للصحة العامة، ويدمجها عضوياً في كل تفاصيل الممارسة الطبية اليومية.
إنه يضع الإنسان، بكامل أبعاده الجسدية والنفسية والاجتماعية، في مركز الاهتمام، ويقدم رؤية واضحة مفادها أن شفاء الروح هو الأساس المتين لتعافي المجتمع بأسره. إنها دعوة صريحة لإعادة الاعتبار للجانب الإنساني في الطب، والاعتراف بأن التعافي رحلة مشتركة تبدأ بالاستماع والتعاطف. البعد الإنساني كأداة علاجيةو يصف الرؤية التي تحرك هذه المبادرة بقوله: “نحن نقدم رسالة إنسانية وعملية لكل ممرض وممرضة في سوريا. إيماننا الراسخ هو أن الكوادر الطبية، بصفتهم أول من يستقبل المريض، يمتلكون القدرة على تغيير مسار التجربة العلاجية بأكملها، إن نبرة صوتهم، أو لفتة تعاطف صادقة، أو قدرتهم على احتواء قلق المريض، تشكل جميعها تدخلاً علاجياً فعالاً يصنع فارقاً حاسماً بين شعور المريض بالعزلة وشعوره بالأمان.
“أيها الممرض، أسلوب تعاملك مع المريض يغير مسار علاجه” يوضح سمير أن هذا الشعار هو حجر الزاوية في كل جلسة تدريبية، حيث تم تصميم المحتوى التدريبي ليدور حول هذه الفكرة المحورية. وهدفنا هو تفكيك الفصل المصطنع بين العلاج الجسدي والنفسي، وتقديم نموذج عملي يدمجهما في مسار علاجي واحد متكامل، نريد أن يرى الممرض في مهارات التواصل والتهدئة أدوات أساسية في حقيبته العلاجية، تماماً كأهمية قياس الضغط أو إعطاء الدواء.

استجابة لألم صامت
لم تكن فكرة المشروع وليدة صدفة، بل هي استجابة مدروسة لحاجة مجتمعية ملحة هذه ما أكده مدير المؤسسة بأنهم رصدوا خلال عملهم الميداني حجم الضغوط النفسية والاجتماعية الهائلة التي يعيشها الأفراد في سوريا. هذه الضغوط، التي تراكمت على مدى سنوات، خلقت حالة من الإنهاك النفسي الجماعي الذي يؤثر بشكل مباشر على الصحة الجسدية وقدرة الأفراد على التعافي.
أيضاً تم ملاحظة أن النظام الصحي، رغم جهوده الجبارة، يركز بشكل كبير على الأعراض الجسدية، بينما يبقى الألم النفسي صامتاً ومهملاً في كثير من الأحيان. ومن هنا، تبلورت الحاجة إلى تزويد الكوادر التمريضية، الذين يقضون وقتاً أطول مع المرضى، بأدوات عملية تمكنهم من تقديم الدعم النفسي الأولي.
“الكلمة الطيبة، والإنصات الفعّال دون إصدار أحكام، والقدرة على شرح الإجراءات الطبية بطريقة تهدئ من مخاوف المريض، كلها مهارات أساسية يمكنها أن تخفف من حدة الصدمة وتعزز ثقة المريض بالنظام الصحي”.
بناء شبكة وطنية للتعافي
انتقلت هذه الرؤية إلى حيز التنفيذ في مرحلة تطبيقية واسعة، شملت تدريب 100 ممرض وممرضة تم اختيارهم بعناية من عشر محافظات سورية: دمشق، درعا، اللاذقية، حمص، حماة، حلب، الرقة، دير الزور، الحسكة، والقامشلي، هذا الامتداد الجغرافي كان قراراً استراتيجياً مقصوداً.
وبحسب سمير هذا التنوع الجغرافي يعكس التزامنا بالعمل من أجل كل سوريا، من اجل كسر حواجز العزلة بين المناطق، وبناء شعور بالوحدة المهنية والإنسانية. والهدف أن يشعر كل ممرض وممرضة في أي بقعة من سوريا بأنهم جزء من شبكة وطنية متكاملة، تتبادل الخبرات وتتشارك في هدف أسمى هو خدمة المريض ودعمه نفسياً وجسدياً.
وتحدث عن البرنامج التدريبي الذي جاء على مرحلتين نظرية، وعملية اعتمدت على منهجيات تفاعلية متقدمة، تضمنت الأنشطة ورش عمل تطبيقية، ومحاكاة لمواقف واقعية من بيئة المستشفيات والمراكز الصحية، وتمارين لعب أدوار، وجلسات لتبادل الخبرات الشخصية. واضاف لقد خلقنا مساحة آمنة للمشاركين لمناقشة التحديات التي يواجهونها يومياً، وشاهدنا كيف يمكن لممرض من حلب أن يشارك خبرته في التعامل مع مصابي الحرب، فتستفيد منها ممرضة في اللاذقية تتعامل مع مرضى يعانون من أمراض مزمنة وقلق وجودي.
هذا التفاعل هو بحد ذاته عملية شفاء وتمكين للمشاركين أنفسهم، الأثر الملموس للتغيير وأكد سمير أن ثمار المشروع بدات تظهر بوضوح من خلال شهادات المشاركين، التي تعكس تحولاً حقيقياً في ممارساتهم اليومية.
ويشارك سمير
هذه الأصوات: “ممرض من دير الزور أخبرنا أن التدريب منحه لغة جديدة للتواصل مع أهالي المرضى القلقين، ما خفف من حدة التوتر في قسم الطوارئ. وممرضة من الحسكة أشارت إلى أنها أصبحت أكثر ثقة في التعامل مع الحالات النفسية الحادة، وباتت قادرة على تقديم الدعم النفسي الأولي بفعالية إلى جانب العلاج الجسدي.
هذه الشهادات هي الدليل الملموس على أن المشروع يترك أثراً مباشراً ومستداماً على جودة الرعاية الصحية”.
شهادة من قلب المنظومة الطبية

ولتعزيز رؤية المشروع، تم عرضها على خبراء من داخل المنظومة الصحية، الذين رأو في المشروع خطة استراتيجية ناجحة تساهم في تسريع عملية التعافي وتحقيق التوازن الحيوي بين العلاج النفسي والجسدي؛ لأن التمريض يلعب دوراً حيوياً ومهماً في المنظومة الصحية، وسعت المؤسسة لترسيخ فكرة أن الطبيب والممرض هما شريكان متكاملان في رحلة المريض نحو الشفاء.
فالطبيب يضع الخطة العلاجية، والممرض هو من ينفذها ويرافق المريض في تفاصيلها اليومية، ودعمه النفسي هو ما يضمن التزام المريض بالعلاج ويعزز من فعاليته. زراعة ثقافة العناية بالنفسيمتد طموح المشروع إلى ما هو أبعد من أسوار المستشفيات.
حيث يؤكد سمير أن الهدف النهائي هو إحداث تغيير ثقافي واسع النطاق، من خلال زرع بذور ثقافة جديدة في المجتمع، تعترف بأن الصحة النفسية هي مسؤولية جماعية. والمستفيدون من التدريب هم سفراء هذه الثقافة في بيئاتهم، فعندما يعود ممرض إلى قريته أو حيه وهو مجهز بهذه المهارات، فإنه يؤثر ليس فقط على مرضاه، بل على زملائه وأسرته ومجتمعه المحلي، وهنا نحن نبني شبكة دعم مجتمعية تبدأ من القاعدة.
تمكين المرأة
ويسلط سمير الضوء على الدور البارز للمرأة في المشروع، كون حضور الممرضات كان قوياً وفعالاً، وتمكينها في القطاع الصحي هو استثمار استراتيجي يعزز من قدرتها على التأثير المجتمعي ويمنحها صوتاً أقوى في صناعة القرار الصحي، والممرضات المشاركات أظهرن قيادة طبيعية وقدرة استثنائية على التعاطف والتأثير، وأثبتن أنهن عنصر حاسم في نشر ثقافة الإسعاف النفسي.
ورغم النجاحات الأولية، يعترف سمير بوجود تحديات كبيرة، منها الضغط الهائل على الكوادر الطبية، ونقص الموارد المادية والبشرية، والحاجة إلى دعم مؤسسي أكبر، كلها عقبات حقيقية، ولكننا نؤمن بأن قوة الإرادة المجتمعية والشراكات الذكية يمكنها أن تصنع الفارق.
ونعمل حالياً على بناء تحالفات مع مؤسسات صحية وأكاديمية لضمان استمرارية المشروع، أما عن المستقبل، فيكشف عن خطة طموحة وهي العمل على إدراج الإسعاف النفسي الأولي كمسار إلزامي في المناهج التعليمية لكليات الطب والتمريض في سوريا؛ لأنه السبيل الوحيد لضمان استدامة الفكرة وتعميمها، بحيث يتخرج كل طبيب وممرض في المستقبل وهو يمتلك هذه المهارات الأساسية، بحيث يصبح الإسعاف النفسي الأولي جزءاً من هوية وأخلاقيات المهنة الطبية في سوريا.
استثمار في مستقبل أكثر إنسانية
ختاما، يمثل مشروع الإسعاف النفسي الأولي مبادرة ناجحة، وشهادة على قوة الروح الإنسانية وقدرة المجتمع على إيجاد حلول مبتكرة من قلب معاناته.
يختتم سمير حديثه بنظرة متفائلة بأن نجاح هذا المشروع هو انعكاس مباشر لإلتزام المشاركين وإيمانهم بأن العناية بالآخر تبدأ بالعناية بنفسية الإنسان، وإن الاستثمار في الصحة النفسية هو استثمار مباشر في مستقبل سوريا، مستقبل نأمل أن يكون أكثر توازناً وصحة وإنسانية، إنها خطوة واثقة على مسار طويل نحو بناء مجتمع معافى وقادر على النهوض من جديد.