كان يوماً عادياً من أيام العاصمة الهولندية «أمستردام»، كان ذلك تحديداً في أحد أيام شهر أيار/ مايو 2013، حين دوّى فجأة صوت صفارة الإنذار داخل مجمع تجاري، منتزعاً الحضور من انشغالاتهم الشخصية لتلتقي عيونهم جميعاً عند لص يعدو هارباً بين ممرات المبنى وطوابقه المفتوحة على فناء رحب، محاولاً الخلاص من رجال شرطة يطاردونه.
لم تكن ندرة الحالة هي ما أثار استغراب الجمهور، ولا السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التي صدحت في الوقت ذاته من مكبرات الصوت في أرجاء المبنى، وإنما ثياب اللص والشرطة التي تشبه ما كان يرتدي أسلافهم قبل ثلاثمئة سنة. وسرعان ما انتهت المطاردة المثيرة بالقبض على اللص وسوقه بعيداً. ليتجمع ضباط وأفراد شرطة القرن السابع عشر في ركن من المبنى للحظات، كمن يتهيأ لالتقاط صورة تذكارية، قبل أن يهبط من الأعلى إطار عملاق أحاط بهم فأصبحوا أشبه ما يكون بصورة مجسمة عن لوحة (دورية الليل) اللوحة الأشهر لرسامهم الكبير رمبرانت.
هذا المشهد الفريد الذي لن ينساه الحضور كان في واقع الحال إعلاناً بارعاً عن إعادة افتتاح متحف المدينة التاريخي (ريجكس) بعد إغلاقه بشكل كامل لمدة عشر سنوات تم خلالها إنجاز عمليات ترميمه بكلفة 375 مليون يورو. وتنبع براعة الإعلان أساساً من أن الإعلان عن المتحف الذي أسسه في عام 1808 ملك هولندا لويس بونابرت (شقيق نابليون الأول) تم عبر اللوحة الأكثر شهرة فيه، المحفوظة جيداً في ذاكرة الهولنديين كجزء أصيل من تراثهم الثقافي الإبداعي، والتي لا تزال تثير بعد كلّ هذه السنوات اهتمام المؤرخين والباحثين والنقاد والمهتمين بالفن عموماً بسبب براعة رمبرانت في بنائها وتوزيع الضوء فيها، وبسبب الحكايات العديدة التي قيلت فيها، وفي مبدعها، وفي الأشخاص الذين تصورهم، وخاصة بعد أن كشفت عملية ترميمها على أنها تصور مشهداَ صباحياً، ففقد اسمها صحته.
لكن لا يبدو أن الجيل الهولندي الشاب يمتلك إحساس أسلافه تجاه اللوحة التي وصفت بالأسطورية، ففي صورة انتشرت على شبكة الانترنت، ربما بذات الوفرة التي انتشر فيها شريط الإعلان عن افتتاح المتحف آنف الذكر، نرى مجموعة من المراهقين في زيارة (مدرسية على الأرجح) للمتحف، وقد جلسوا على مقعد مجاور ل (دورية الليل)، لكن المفارقة أن أياً منهم لم يكن ينظر إلى اللوحة، وإنما كانوا جميعاً منهمكين في متابعة ما يظهر على شاشات (هواتفهم الجوالة الذكية) وقد لا يتعدى ذلك المواد المسلية المبددة للوقت، وكأنهم يديرون ظهورهم لثقافة آبائهم. مطبقين عملياً فكرة أن هدف (العولمة) جعل جيل المراهقين (التين إيجرز) في العالم كله يشبهون بعضهم ولا يشبهون آباءهم. فما رأيناه في هذه الصورة يشبه ما نراه في كل مكان من عالمنا..
ليس لهذا الهدف أي بعد إنساني كما قد يبدو للوهلة الأولى، فالتقارب بين المجموعات البشرية المتعددة لم يكن يوماً هماً للقائمين على (العولمة) ومنطلقهم، أولاً وأخيراً، اقتصادي وسياسي، وحين يمارس المراهقون، فالشباب، في العالم كله السلوك الاستهلاكي ذاته فإن الرابح الأكبر هو الشركات العملاقة العابرة للقارات التي تنتج لهم، ما يرتدون وما يأكلون.. وتقرر لهم كيف يلهون، وكيف يفكرون. وعلى هذا يمكن أن تتوفر للأجيال الناشئة أدوات معرفية مذهلة الإمكانيات، كشبكة الانترنيت والوسائط السهلة المتنوعة للوصول إليها (الهواتف الجوالة والكمبيوترات المحمولة وسواها..) لكنها ستكون على الغالب في منأى عن الاستخدام المفيد لها كما في البيت الشعري الذي نسب لأكثر من شاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
فما الفائدة من (هواتف ذكية) إذا كان استخدامها غبياً؟