للنقد أسسه، ومعاييره العلمية التي يتم الحكم من خلالها على جودة ما يُنقد، أو رداءته.. وهو لا يقتصر على النصوص الأدبية فقط بل هو للفن أيضاً، ومثله الفكر، والفلسفة، والسياسة، وغيرها.. والمدارس النقدية تتعدد وتتنوع بين حديث، و(كلاسيكي) تقليدي.
إلا أن النقد الذي أصبحنا نجده الآن على صفحات بعض الصحف، والمجلات، ومعها تلك الإلكترونية على شبكة المعلومات، لم يعد يصدر عن الناقد المتخصص الذي أنفق سنوات جامعية في دراسته حتى اكتملت أدواته العلمية التي تمكنه من الفرز، والتحليل، والتقييم.. والنقد في أساسه وُجد ليكون بنّاءً لا هدّاماً لأنه يقوّم، ويصحح، ولا يطلق الأحكام جزافاً، وحسبما تميل الأمزجة، والأهواء.
صحيح أن الفن، والأدب معه يخضعان للأذواق الشخصية التي تتباين بين الناس، وتختلف بين مَنْ يستحسن، ومَنْ يستنكر، أو أنها المنطقة الرمادية التي تتساوى فيها الألوان بين الأبيض، والأسود.. لكن النقد العلمي الموضوعي له معاييره الواضحة، وأسسه الثابتة التي يُحاكم وفقاً لها العمل سواء أكان فنياً، أم أدبياً، أم في أي مجال آخر.
لكن موجة جديدة قديمة آخذة في مدّها إذ تنتعش على الصفحات سواء الورقية منها، أو الإلكترونية، هي ليست من النقد الموضوعي بشيء.. فلو أنه المديح فقد يكون بما لا يتناسب والمحتوى الإبداعي أدبياً، أم فنياً، وبما يتجاوز حدود القبول، والاستحسان ليصل أحياناً إلى النفاق.. وأكثر ما نلاحظ هذا الأمر على صفحات التواصل الاجتماعي عندما يصدر التقييم عن أشباه النقّاد لا عن نقّاد حقيقيين، أو عن أناس عاديين، ليبدو الحال كنفاق اجتماعي، ومحاولة للتودد من طرف نحو آخر.. وهذا الآخر الذي يتلقى عبارات الإطراء، والتشجيع للمضي قدماً فيما يقدمه، ويعرضه على أصدقائه، وغيرهم، يقع في نشوة تشبه لذة الانتصار فإذا به يغفل عن أخطائه، ولا يجد بالتالي مَنْ يمسك بيده ليضعه في المسار الصحيح الذي يرتقي بما ينتجه ليكون أصيلاً فعلاً لا مزيفاً، وكما يجب أن يكون عليه كل ما ينتمي إلى الإبداع.
أو أنه على الطرف الآخر من التقييم للمنتج باسم النقد ما هو على النقيض من سابقه عندما لا يلقى المُنتج استحساناً من جمهور المتلقين فإذا به يقع فريسة لما هو من النقد الهدّام، ويتعرض لما هو من التجريح به، والتشويه بما لا يدع فرصة لصاحبه لأن يسعد بما أنجز، أو أن يشعر بالرضا عنه، وعن نفسه بعد موجة من العنف، والعداء يتلقاها كمن يتلقى صفعة تجعله يتراجع خطوة إلى الوراء أو خطوات.. وقد تضيع المواهب الحقيقية في أحوال كهذه ما لم تجد مَنْ يشجعها، ويؤمن بها، ويمسك بيدها ليضعها على الطريق الصحيحة، أو ليرشدها إليها.
وقد نستغرب انتعاش هذه الظاهرة النقدية بشكل لافت في السنوات الأخيرة مع اتساع ساحة التواصل بين البشر، مترصدة كل جديد، وهي تقع بين المديح والتجريح لتزدحم بها الصفحات الإلكترونية، ولتصل ارتداداتها إلى البرامج التلفزيونية، والتصريحات الإعلامية، والنشرات الإخبارية، وبرامج (التوك شو) الحوارية، وأخبار الفنانين، ومشاهير الرياضة، وغيرها كثير، ليصبح المتابعون لكل هذا كمن يصطاد في الماء العكر، والشاطر من بينهم مَنْ يصنع لنفسه من خلال المدح، أو القدح ما أصبح يسمى (نموذجاً شائعاً) ــ لو صحت الترجمة للمفردة الأجنبية (تريند) ــ والأمر لا يقف عند هذا الحد عندما تنقاد أعداد من المتابعين وراء ما يُصدّر لهم من آراء فإذا بهم يروِّجون لها دون دراسة، أو دراية.
وإذا كانت شبكة المعلومات قد أتاحت لنا من خلال محتواها الاطلاع على كل ما يختص به النقد لغير الدارسين له، وهي تسعف أيضاً بمعلومات تساعد على الارتقاء بدراسة المنتج الإبداعي، بينما نحن نتلقى كل ما يظهر على هذه الساحات سواء وجد القبول لدينا، أم الرفض، فلماذا إذن نبحث عن مسوغات، ومبررات لنغلق بموجبها عقولنا على تقييمات سواء من السلب، أو الإيجاب هي ليست من النقد الهادف من شيء، ولا نبحث عما أرساه العلم، والمعرفة من أسس موضوعية، ومعايير نقدية، ومناهج فكرية نحاكم من خلالها دون أن تستبد بنا الأمزجة، والأهواء، والتطلع إلى حصاد لا يسمن، ولا يغني من جوع؟.
وحتى لا تختلط الأمور بين جيد ورديء، وبين ناقد دارس وعارف، وآخر يدعي لنفسه المعرفة فقد آن الأوان لوضع حدود فاصلة بين هذا وذاك.. حدود فيها احترام للرأي والرأي الآخر، ولهوامش حرية كل منهما.