الثورة:
نعم حتى تحافظ تلك العبارة على جمالها “ابني موظف قد الدنيا” دعونا نفكر ملياً لدعم الوظيفة العامة وحملة الشهادات، فمن غريب هذا الزمان وغرائبه أن يصبح حملة الشهادات الجامعية كمن يحملون فوق ظهورهم أثقالاً، تشدهم للأسفل بدلاً من أن تعينهم تلك الشهادات على تحقيق حلمهم، بحياة كريمة ودخل معقول يتجاوزون به مصاعب الحياة.
لكن الحقيقة المؤلمة أن الحصول على الشهادة فقد بريقه لدى الكثيرين، حيث لم تعد الوظيفة العامة مكسباً مغرياً لأي خريج في ظل سلسلة الرواتب والأجور المحددة وفق قانون العاملين الأساسي في الدولة، والأكثر صعوبة هو الحصول على هذه الوظيفة في غياب الصورة الواقعية عن سوق العمل وحاجته للخريجين، فماذا تغير بين الأمس واليوم؟، وهل من خطر يواجه حملة الشهادات في عالم بات فيه الاستهلاك سيد الموقف والإنسان يقاس بما لديه وما عنده من مال وأرزاق.
يوم كانت الوظيفة ميزة لأصحابها
قبل زمن ليس بعيداً عن زمننا، كانت الوظيفة العامة امتيازاً لصاحبها، وكان الموظف العام يحظى بالاحترام والتقدير في الوسط الاجتماعي، وتتسابق العائلات لتزويجه من بناتها ومصاهرته، فالوظيفة ضمانة له ولعائلته مدى الحياة، ومكان الموظف الحكومي محجوز له في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وكانت حياته مميزة وتتسم بالرتابه والتنظيم، وتزيد على هذا حسب المنصب الوظيفي الذي يشغله الشخص، ومع تقدم الزمن لا ننسى كم التوسط والكرامات التي تسخر للفوز بالوظيفة العامة، على تنوع مستوياتها.
لكن هذه الميزات تبدلت مع دخولنا الألفية الثالثة وكأن سحراً قلب الطاولة على جمهور الموظفين، فصارت الوظيفة العامة حلماً للخريجين ولمختلف المستويات حيث ارتفعت الأصوات تتحدث عن الخلل الإداري والبطالة المقنعة والفساد الإداري والفائض العبء الثقيل على قطاعات الإنتاج المختلفة وارتفعت وتيرة الحديث عن الإصلاح والتنمية الإدارية الحديثة وإصلاح القطاع العام، كل ذلك ترافق لأسباب نجهلها مع تراجع مكانة الموظف وحظوظه الاجتماعية أمام عدم كفاية الرواتب والأجور لسد حاجات الموظفين وعائلاتهم، وغياب خطوات الحلول الشافية، كل ذلك ربما يكون سبباً لتبدل الصورة حول الوظيفة والموظفين عموماً.. فماذا بعد؟
– نظرة سلبية..
هنا ثمة صور مؤلمة لدى الشباب نلاحظها في عدم الرغبة للعمل في القطاعات الإنتاجية في ظل ما تعانيه هذه القطاعات اليوم من صعوبات عديدة، سواء فيما يتعلق بمناخات العمل أم في صعوبة تأمين مستلزمات العمل من المواد الأولية بسبب الحصار والعقوبات وغير ذلك وسط أجواء ساخنة من المنافسة مع قطاع خاص ينظر بالمرتبة الأولى لمعدلات الربح وزيادة الحسابات البنكية، في وقت يجتهد أصحاب القرار بالتصريحات والوعود بالمحاسبة القاسية لكل محتكر أو مرتكب أو مساهم في وجع الناس، لكنها تبقى مجرد كلام بكلام.
بالمقابل ثمة فجوة كبيرة في معدلات الأجر والراتب بين العمل العام والعمل الخاص، لكن الكفة تميل ظاهرياً لجهة العمل في القطاع الخاص رغم أن الأخير يستثمر بقوة العمال حتى آخر الممكن، ومن أرباب العمل من يخالف القانون بتشغيل الأحداث والقاصرين بالأعمال المجهدة والخطرة، ويضاعف ساعات العمل، لكنه يعطي معدلات رواتب أعلى من نظيره العام، وهذا يفسر توجه الشباب للعمل في القطاع الخاص لدرجة الرضوخ لشروطه القاسية والتي أقلها كتابة الاستقالة مع قرار التعيين للتهرب من حق العمال بالتأمين، وغير ذلك كثير.
– ماذا عن حال حملة الشهادات؟..
الأكثر سوءاً أن الحاجة لمصدر رزق للشباب وأسرهم تجعلهم يرضخون للحالة الجديدة فيقبلون بالعروض المتاحة دون تفكير بعاقبتها، ومثال ذلك أن يقبل حاملو الشهادات بالتعيين في الفئات الأقل لمستوى شهاداتهم، كأن يقبل خريج جامعي العمل بالفئة الثالثة وحتى الخامسة فقط للحصول على الوظيفة، ويكبل نفسه بالتعهدات بالرضا والقبول ثم سرعان ما تبدأ معركة تعديل الوضع والبحث عن شاغر وظيفي بناسب ما يحمل الموظف من شهادات حصل عليها بعد التعيين، وهذا ليس بالأمر اليسير في ظل ندرة الفرص المتاحة.
وبين الصورتين، يقف الأهل عاجزين تماماً عن إقناع أولادهم، للالتحاق بالعمل العام، أو حتى التفكير بمتابعة دراستهم أمام التكلفة الخيالية، التي تدفع لمرحلة التعليم الثانوي بفروعها المختلفة، بغرض النجاح بعلامات عالية، تمكنهم من حجز مقعد في الكليات الطبية والهندسات، في الجامعات الحكومية والخاصة، والموجع أن يجيبك من تسأله عن هذا التركيز على تلك المقاعد، بأن الهدف من الشهادة مشروعاً مالياً لحاملها، وجواز سفر يفتح له أبواباً واسعة لتأمين مستوى جيد يساعده على تغطية ضرورات الحياة على الأقل.
فهل من خطوات ملموسة على الأرض تعيد للوظيفة العامة بريقها المفقود، وتعيد للشهادات رونقها ومكانتها، حتى نعزز ثقافة العمل المنتج وتدور عجلة الإنتاج محققة الخير والتطور لوطننا الذي نحب ونعشق.
وحتى تبقى كلمات تلك السيدة التي قالت لمن سألها عن عمل ابنها “مشروع العريس”: “افتحوا عيونكم مليح، ابني موظف حكومي قد الدنيا”.. تبقى تحمل ذلك الألق، وحتى لا يستبدلها البعض بالقول: “الشغل مو عيب”، وكي لا نفقد البوصلة، ونخسر الشباب والكفاءات نسأل أنفسنا ونرفع صوتنا لأصحاب القرار أن يتنبهوا لهذا الأمر، فمن يبني الوطن، سواعد أبنائه وليست الأمنيات، فهل نفعل؟
بشار الحجلي