استوقفتني عبارة أحد الأشخاص المميزين في عمله بإحدى الجهات العامة عندما سألته عن سبب استقالته من العمل والتي قال فيها: “إن أستمر في الوظيفة فهي جريمة بحق نفسي، وإن أترك العمل فهي جريمة بحق الوطن، ولكن لم يعد في العمر ما يكفي للانتظار”.
ما أوصل هذا الشاب الى الاستقالة وغيره من الكفاءات، سببه ما جرى في كثير من الجهات العامة التي تم فيها إبعاد الكثير من الخبرات الميدانية التي عملت في أصعب الظروف ولسنوات طويلة وابتكرت الحلول لمصلحة من امتلك شهادات مراكز التدريب والدبلومات، بمعنى تفضيل المؤهلات على سنوات الخبرة والمهارات والعمل في أصعب الظروف.
لا يُمكن مقارنة كفاءة شخص أمضى سنوات طويلة من العمل بين التجهيزات والآليات والمنشآت البعيدة في الصحراء، وابتكر بدائل وحلولاً لمواجهة أعتى الظروف مع شخص أمضى سنوات أقل في الدراسة ومراكز التدريب والتأهيل، ولا يُمكن أن نطبق عليهم المعايير نفسها، ويؤكد ذلك الاستنزاف الكبير للخبرات والمهارات وتلقفها بشراهة من القطاع الخاص أو الدول الأخرى.
ما يُطبق من معايير في الإصلاح الإداري قد يكون صحيحاً مئة بالمئة في جهات القطاع الإداري ولكنه لا يصح في القطاعات الفنية والإنتاجية التي يلعب فيها تراكم المهارات الميدانية دوراً مهماً في نجاح عمل هذه المؤسسات، ولذلك يجب أن نحدد هل نحن ننشد إصلاحاً إدارياً أم فنياً، أم ننشد إصلاحاً شاملاً؟
إن مصادرة قرار الجهات الفنية بتعيين كوادرها أدى لفراغ المؤسسات والشركات العامة من أهم خبراتها وتجاهل كل المهارات المتراكمة زمنياً وعملياً، ولذلك لا بد من إعطاء الإدارات الفنية أحقية وبنسبة عالية في اختيار المفاصل الأساسية بالعمل ومنعاً لتغطرس الإدارات الفنية تُترك نسبة معينة من صلاحية القرار للجهات الإدارية ومعاييرها.
الاستقالة حق ولا يُمكن مصادرته بسلطة صاحب القرار، ولكن يُمكن تجنبها بحوافز حقيقية مُنصفة للخبرات والمهارات مادياً ومعنوياً، وبالمقدار نفسه للمادي والمعنوي.