لكل أمة تاريخها، وتراثها، وثقافتها، كما أن لها رموزها ممن أثّروا فيها، وأثروا مجدها حتى أصبحت أسماؤهم تعلن عن إنجازات قدموها لأوطانهم.. وبعد أن دخلنا إلى عصر جديد في الألفية الثالثة ازدهرت فيه التقنيات الحديثة بدرجة كبيرة، وأصبحت موسوعة العالم التي تضم إليها كل معلومة صغيرة كانت، أم كبيرة بين أيدي كل الناس، وأقصد بها شبكة المعلومات، أقول بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من تدفق المعلومات، والأسماء حديثها، وقديمها كدنا ننسى مَنْ هم من رموز أمتنا ممن لا يجوز لنا أن ننسى إنجازاتهم سواء على صعيد العلم، والمعرفة، أو الفن، والأدب.. وها هي أجيال منهم تغادر الحياة لتسلم المهمة لأجيال جديدة تتوالى، وكلٌ يضيف من علمه، وخبرته إلى ما سبق، وتحقق.. إلا أن مَنْ مهّد الطريق يبقى له مجده الخاص الذي يميزه كما بصمة اليد.
فبعد أن حاصرتنا العولمة من كل اتجاه كادت أن تطمس هويتنا الحضارية، والقومية، ولا أقول الوطنية لأننا كأوطان عربية ننضم جميعاً تحت مظلة قومية واحدة في أهدافنا، وثوابتنا.. ومادمنا قد اتفقنا فيما مضى على رموز في تراثنا العربي الواحد فما أحوجنا الآن ونحن نجهد في تثبيت هويتنا إلى أن نكرّس أسماء معاصرة لتكون رموزاً أخرى جديدة لهذه الأمة تضيف إليها فتترك الأثر، والتأثير، وتكون المثال، والقدوة لأجيال حالية، وأجيال مستقبلية.
وفي هذا الاتجاه أقول إننا عندما نتفق على ثوابت الأمة نستطيع أن نحدد مَنْ هم رموزها، لعلنا اعتمدنا بعض الرموز أثناء الاستعمار الأجنبي مثل (عمر المختار)، و(الأمير عبد القادر الجزائري)، و(يوسف العظمة)، وغيرهم ولكننا لم نعتمد رموزاً أخرى عملت في صمت، وكان لها الهدف ذاته الذي تبناه هؤلاء الذين رسخت أسماؤهم في ذواكر شعوبهم.
وانطلاقاً من هذا فإن علينا التركيز على ما هو من الثوابت الآن، وعلى ما هو من الماضي.. فعندما يكون لدينا ثوابت تجاه إسرائيل، والأرض المحتلة، وأخرى تجاه اللغة العربية، ومثلها تجاه المرأة، وتجاه الدين نستطيع عندئذ أن نقول إن هؤلاء هم رموز الأمة.. وكم من الشخصيات كانت تستحق أن تكون رموزاً وطمست.
ولو عدنا إلى التراث بلمحات سواء في الطب، أو الفلك، أو الهندسة، والعمارة، وغيرها لأدركنا كم أصبحت الفجوة كبيرة عبر القرون بين أجداد التراث وما هم عليه الأبناء الآن، ولكان علينا أن نفسر ما قدمته لنا النهضة الغربية انطلاقاً من تراث الأجداد وصولاً إلى النقطة التي نحن فيها ليكون السياق كاملاً كأن نعرّف بالرازي مثلاً كمبدع في التراث بعد أن نَشرحه، ونستوعبه، وندرسه، ثم نتلفت حولنا لنقول لو استمر خط (الرازي) من خلالنا فأين كنا سنصل؟ بينما في الواقع غيرنا هو الذي أوصلنا إلى النقطة التي نحن عليها الآن، وكأنه سرق تراثنا، أو ضمه إلى تراث مماثل عنده، وهذا الأمر مشكوك فيه بالنسبة للغرب، ولكنه مقبول بالنسبة للحضارات الأخرى كالصين، أو الهند، أو فارس، أو غيرها.
إن التذكير برموز الأمة في التراث على الأخص عبر الأحداث التي تجري الآن في وقتنا الحاضر، وربط هذه الأحداث بمن اشتغل بها على توالي العصور هو إحياء أكيد لرموز الأمة.. فالتذكير بابن سينا مثلاً في اكتشاف الدورة الدموية الكبرى عند أي ذكر لعمليات القلب، أو غيرها يمهد لخلق رمزٍ معاصرٍ ممن تميّزوا، وأعطوا في هذا المجال، وهكذا… ولا يهم أن يكون التذكير عبر صفحات، ومحاضرات، وإنما بلمحات ولو سريعة، وقصيرة، تثبّت ما مضى، وتمهد لمن أتى.. ولو ذكرنا (عمر الخيام) كشاعر فلماذا لا نعرّف به أنه فلكي أيضاً، وأنه صاحب نظرية في الحياة والموت، ونكون بذلك قد فتحنا القناة على آخرها.. ولو التفتنا إلى النظام الصحي، والاقتصادي للشعوب فلماذا لا نعرّف بالنظام الإسلامي، وبالبيمارستانات التي كانت فيها الرعاية الطبية، والنفسية بآن معاً، وشعارها (وإذا مرضت فهو يشفين)، ولربما كان للدين تأثير إيجابي أنجع من زيارة الطبيب عند مَنْ يؤمن بذلك من المرضى.
من الجيد أن نجمع شباب الأمة مع رموزها، لكن لابد من التأكيد على طريقة اختيار الرمز من حيث تميزه في الفترة الزمنية التي تواجد فيها، وعبّر خلالها عن هذا التميز الذي ترك الأثر ولو كان تعبيره الآن بسيطاً، فهدى شعراوي أصبحت رمزاً لتحرر المرأة في زمنها لمجرد ظهورها في الشارع آنذاك، وقد كان الشارع حكراً على الرجل فأصبحت رمزاً.
والرموز لا تنقطع فروعها عن أصولها.. وكذلك لا ينقطع العقل العربي في الخارج بهجرة الأدمغة، والعقول العربية عن أصل شجرة العقل العربي، وكلنا يعرف أسباب تلك الهجرات، وهي بسبب الدوافع الاقتصادية، والاجتماعية.. فتحقيق الذات عند الإنسان يعادل تحقيق الثروة إن لم يتفوق عليها.. وما اختيار رموز للأمة سوى اختيارنا لوجهنا الحضاري، وتثبيت لهويتنا القومية.
* * *