الثورة – سعاد زاهر:
تتداخل العديد من الأنواع الدرامية لتخلق أعمالاً تمس القلوب والعقول، وتستفز المشاعر، وتدفع المشاهدين للتفكير والتأمل، من بين هذه الأنواع التي حققت حضوراً مميزاً، نجد الدراما الاجتماعية، الدراما النفسية، والتشويق البوليسي. كل منها يحمل في طياته سمات خاصة، لكنه حين يجتمع مع الآخر، ينبثق فن سردي جديد يمتلك قوة التأثير والشد المتبادل.
تتميز الدراما الاجتماعية بعمقها الإنساني، إذ تستخدم الشخصيات كمرآة تنعكس عليها مشكلات المجتمع، فتشعر المشاهد بأنه يرى جزءاً من نفسه أو من واقعه، فتتولد لديه مشاعر التعاطف، الوعي، وربما الغضب نحو الظلم.
إذا كانت الدراما الاجتماعية تتحدث عما نعيشه في الخارج، فإن الدراما النفسية تكشف كيف تؤثر الصدمات، الخيانات، الأزمات، وحتى الضغوط الاجتماعية على عقلية الإنسان وسلوكه. لذلك، فهي غالباً ما تقدم شخصيات معقدة، متناقضة، تعيش في صراع مستمر بين رغباتها وأعباء واقعها. أما التشويق البوليسي لا يقتصر فقط على سرد الجريمة، بل يسلط الضوء أحياناً على أبعاد نفسية واجتماعية، فيضيف بعداً إنسانياً إلى القصة ويجعلها أكثر عمقاً من مجرد لغز يُحَل.
ثلاثي الأبعاد.. غموض يثير الذهن
مسلسل “ستيليتو” هو مثال بارز على الدمج الناجح بين الدراما الاجتماعية، النفسية، والتشويق البوليسي، ليقدم تجربة درامية متكاملة، عميقة، ومؤثرة. تدور أحداث المسلسل حول جريمة قتل غامضة في إطار اجتماعي معقد، إذ تتشابك العلاقات بين أفراد المجتمع، وتظهر طبقات متعددة من الأسرار والأحقاد. يعكس العمل الواقع الاجتماعي، يصور الصراعات الطبقية، الضغوط الاقتصادية، والعلاقات الأسرية المضطربة، مما يضع الشخصيات في مواقف تعكس واقعاً مألوفاً للمشاهد. من جهة أخرى، نغوص في أعماق النفس البشرية، ونرى كيف يؤثر الغموض والجريمة على الحالة النفسية للشخصيات، فتتصاعد التوترات الداخلية وتتكشف طبقات الصراع النفسي، مثل الشعور بالذنب، الخوف، والانتقام.
وأخيراً، يمارس المسلسل فن التشويق البوليسي، وتتوالى الأحداث عبر تحقيقات مكثفة، استجوابات مثيرة، وأحداث مفاجئة، تبقي المشاهد في حالة ترقب مستمرة لكشف الحقيقة. بهذا الدمج، يخلق “ستيليتو” عملاً درامياً مشحوناً بالمشاعر، العقل، والتشويق، يتجاوز الترفيه ليصبح تجربة فكرية وإنسانية متكاملة.
كيف تكيف العمل مع البيئة العربية؟
في هذا السياق، يقدّم مسلسل “ستيليتو” نموذجاً عربياً يجمع بين الأنواع الثلاثة في بناء واحد متماسك، ورغم أنه مقتبس عن المسلسل التركي “جرائم صغيرة”، فإن النسخة العربية استطاعت إعادة صياغة القصة ضمن بيئة عربية، محافظة على جوهر التشويق والتحقيق، ومضيفة لمسات تتعلق بالثقافة المحلية. القصة تنطلق من جريمة قتل غامضة في حفل ضخم، إذ تُلقى جثة من شرفة قصر فخم، لينفتح الباب على شبكة من الأسرار، والخيانة، والصراعات القديمة بين أربع نساء يجمعهن ماضٍ لم يُطوَ.
البعد البوليسي التشويقي كمفتاح للذاكرة
التشويق هنا ليس فقط في معرفة هوية القاتل، بل في بطء الكشف وتوزيع المعلومات بحذر شديد، الحوار المقتضب، النظرات الصامتة، ولحظات المواجهة غير المكتملة، كلها أدوات تبني حالة من التوتر المتصاعد، المشاهد يتحول إلى محقق يربط الخيوط، ولا يحصل على الإجابة إلا بعد أن يمر عبر طبقات من التضليل والمفاجآت.
منذ المشهد الأول، يأخذنا العمل إلى أجواء التحقيق البوليسي، حيث يعمل المحقق على جمع الشهادات، لكن كل شهادة تفتح نافذة على الماضي، وتعيد ترتيب شبكة العلاقات، هذه البنية تمنح المسلسل إيقاعاً خاصاً، إذ تتداخل خطوط الحاضر “التحقيق” مع الماضي “الأحداث التي أدت للجريمة”، لتكشف أن القاتل قد يكون أيًّا من الحاضرين، وأن الدافع أعمق من مجرد لحظة غضب.
الطبقة المخملية تحت المجهر
“ستيليتو” يسلط الضوء على عالم الطبقة الثرية، إذ الفخامة تخفي هشاشة العلاقات، البيوت الفارهة والسيارات الفخمة لا تمنع الانهيار الداخلي… الزواج هنا أحياناً صفقة، الصداقة منافسة، والحب رهينة للمصلحة، من خلال هذه العدسة، يتحول المسلسل إلى دراسة اجتماعية عن كيف يمكن أن يكون الثراء قناعا هشّاً يسقط عند أول أزمة.
فلك “ديمة قندلفت”.. سيدة قوية، تستخدم السيطرة كدرع، لكنها تواجه خوفها من فقدان سلطتها، أداؤها من أهم الروافع الأدائية في العمل، لا يمكن أن تمر أي لقطة في العمل للفنانة من دون أداء عميق يحمل موهبة فذة، تبتكر ألف وسيلة للتألق.