لاشك أن البناء الأساسي للإنسان هو البناء الفكري والثقافي فإذا أردنا أن نضمن الاستقرار ونضمن المستقبل لهويتنا الثقافية والقومية لابد لنا من الاشتغال على المسألة الثقافية فالشاغل الثقافي الذي يبدو عند البعض هامشياً ألا إنه في حقيقة الأمر عنصر استراتيجي للأمة كبقية الشواغل الهامة الأخرى كقضية الحرية والتنمية وغيرها فنحن نبني عقولاً ونبني مستقبلاً آمنا مستداماً عبر الفعل الثقافي المعرفي من هنا تصبح مسألة الحديث عن الأمن الثقافي العربي قضية مهمة ومهمة جداً لأبناء الأمة خاصة في ظل ما يواجه شعوب العالم من تحديات تفرضها العولمة بكل أشكالها وتجلياتها ولاسيما العولمة الثقافية وبعد ما سمي أيضا الربيع العربي وما تركه من ندوب وجروح عميقة على مستوى الدولة الوطنية والفكرة القومية على وجه العموم.
لقد خسرنا الكثير بوصفنا عرباً اقتصاديا سياسيا ولكن الأخطر أن نخسر الهوية الوطنية ومن ثم الهوية القومية فأكبر خساراتنا أن نفقد أمننا الثقافي لهذا تبدو الحاجة ملحة للإضاءة على ثلاثة عناوين لِولوج المفهوم وهي:
1 – محاولة تأصيل مفهوم الأمن الثقافي.
2 – الحاجة إلى الأمن الثقافي العربي.
3 – في المفهوم والمحتوى والآليات ففي إطار تحديد المفهوم فهو مفهوم مركب يربط بين مسألتين الأمن والثقافة اللذان يبدوان متعارضين من حيث الشكل إذ يعرف الأمن على انه جملة الإجراءات التي يتخذها مجتمع ما لحفظ حقه في البقاء ويعرف الأمن الثقافي بأنه التحرر من الخوف والتهديد وهو قدرة المجتمعات على بقاء كيانها المستقل وتماسكها الوظيفي ضد أشكال من التغيير يراها المجتمع مهددة له أما مفهوم الثقافة فهي تعرف على أنها نظام متكامل يشتمل على كل من المعرفة والفن والقانون والعادات والتقاليد والأخلاق وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان بوصفه احد أفراد المجتمع فالثقافة أساسا مكتسب اجتماعي يرثه الإنسان من جملة ما يرثه من عادات وتقاليد وعقائد فهي وسيلة لتنظيم الأفراد لعاداتهم وقيمهم ومعتقداتهم ومعارفهم ما يؤدي إلى سلوك عام متشابه إضافة إلى أنها حصيلة ما يتعلمه الإنسان في حياته بوصفه عضو في مجتمع أي ما يمكن اختصاره(بالتعلم الاجتماعي) أما الأمن الثقافي وهو العنوان الأساسي الذي عنيناه فهو كما أسلفنا مفهوم مركب من معنيين أخذا في الاعتبار أنه مفهوم حديث الولادة نشأ في تسعينيات القرن الماضي وارتبطت ولادته بمفهوم العولمة والغزو الثقافي ومحاولات مواجهة ذلك الغزو الثقافي الذي يحاول أن يقضي على هذه الثقافات ويقوم بعملية حلول متدرج يقصيها ويفقد المجتمعات خصوصيتها وهويتها المشكلة لها ما يعني تشكل العالم وفق تصور وحيد أو نسخ متعددة من تصور واحد منمط غربيا.
وبالعودة لولادة المصطلح نكتشف أن مفهوم الأمن قد اتسع بعد توجه العالم للقطب الواحد مع نهاية الحرب الباردة وأصبح الحديث عن أمن ثقافي وسياسي وفكري واقتصادي وغذائي مسألة واردة في كل أشكال الخطاب الذي تلا تلك الحقبة ولعل ما نظر له كل من الفيلسوفين الأمريكيين فرانسيس فوكوياما الذي بشر بنهاية التاريخ ونجاح النموذج الأميركي الليبرالي وكذلك صموئيل هاتنغتون في أطروحة صراع الحضارات حيث حاولا التبشير والتمهيد لتكريس نجاح الثقافة الغربية الأوربية ونموذجها الليبرالي بمواجهة ثقافات الشعوب الأخرى فالمفهوم ولد متزامنا مع ما طرحته فكرة العولمة بأشكالها المختلفة علما أن العالم الغربي الذي اعتقد انه سيكون الرابح من موضوعة العولمة اكتشف انه قد يكون الخاسر فيها من خلال ظاهرة الهجرة والتمسك بالهوية عند المهاجرين وعدم انصهارهم في ثقافة الغرب أو تقبله لهم كما حدث في فرنسا وبعض الدول الأوربية وكذلك ما سمي فوبيا الرهاب الإسلامي وكل هذه تعبر عن أزمة العالم الآخر في تزعزع ما يمكن تسميته أمنه الثقافي.
مما تقدم يمكن تعريف الأمن الثقافي:
بأنه الحفاظ على الهوية الذاتية والهوية الثقافية في مواجهة محاولات الاحتواء والهيمنة على الشخصية الثقافية والحضارية للأمة فالأمن الثقافي يكمن في الحفاظ على الهوية الثقافية والشخصية الثقافية للأمة بينما يذهب تعريف آخر لمفكر عربي آخر هو عبد الإله بلقزيز حيث يعرف الأمن الثقافي العربي بأنه الإشباع الذاتي من الحاجات الثقافية للأمة وقدرتها على تأمين حاجتها على الإنتاج والتراكم ومغالبة الندرة والخصخصة ورفع خطر الخوف من العجز وفقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع والوجدان والذوق، فالأمن الثقافي وفق التعريفين المشار اليهما يرتكز على جملة من العناصر يمكن اختصارها بما يلي
1- اللغة بوصفها تؤدي الدور الثقافي وخزان الأمة
2- العقيدة بما هي نظام حياة
3- التراث بوصفه تاريخ وذاكرة لأي مجتمع
4- الانتماء والمواطنة بما هي جملة الحقوق والواجبات والسؤال الآن لما الحاجة للأمن الثقافي العربي؟ إن معاينة الواقع العربي موضوعياً تجعلنا نتلمس إرهاصات أولى لانفراط في العقد الاجتماعي العربي لا بل أكثر من ذلك أن العقد الاجتماعي الوطني لكل بلد عربي بدأ يواجه شكلا من أشكال التشظي والتفكك والتآكل فثمة انكشاف للأمن الثقافي العربي واختراق له وربما بدأ ذلك مع سبعينيات القرن الماضي مع الاختراقات الصهيونية للأمن القومي العربي عبر اتفاقيات وقعت معه تدخلت في بعض اشتراطاتها عناصر وعناوين تدخل في البناء الثقافي والتربوي للأقطار التي دخلت خط التسويات السياسية ثم تبعها احتلال الأميركيين للعراق وغزوهم له وتدخلهم في صياغة دستوره وتلا ذلك ما سمي الربيع العربي والفوضى التي سادت المنطقة العربية وما رافقها من استيقاظ للانتماءات والخرائط الضيقة والهويات ما تحت الوطنية وتراجع الهويتين الوطنية والقومية الجامعة فمع انفراط الأمن الوطني أصبح الخوف من انفراط الأمن الثقافي أمراً وارداً سيما وأن ثمة تخصيب للانتماءات المذهبية والعرقية بدا واضح الملامح والتأثير مع استدعاء هوياتي واستلاف كاذب ومضلل لتاريخ متخيل غير واقعي لجهة ضرب الجماعة الوطنية والهوية الجامعة. لقد اعتقدنا لعقود من الزمن أن عناصر الهوية الوطنية قد استقرأت وكذلك مفهوم المواطنة لتكون رافعة لبناء قومي شامل واذا بنا نواجه بتحدٍ يستهدف الهوية الوطنية ويسعى لتمزيقها بل ونفيها وتسفيهها وترافق كل ذلك مع هجوم غير مسبوق على الهوية القومية والادعاء بانها حلم رومانسي (للقومجيين)، وقاد هذا الهجوم شعوبيين جدد تدعمهم وتغذيهم قوى خارجية حملت حقدا تاريخيا على فكرة العروبة.
واذا وضعنا الاستهداف الهوياتي الذي أشرنا إليه فإننا جانباً نلاحظ ثمة تشوهاً ثقافياً في بلداننا العربية إلى درجة أن بعض المفكرين العرب تحدثوا عن انتحار لغوي واستلاب يؤدي إلى ضرب حامل أساسي للفكرة القومية وهو اللغة العربية ولكن هذا لا يعني طبعاً رفع وتيرة الرقابة على الثقافة وتطور اللغة ضمن قواعدها المعروفة والراسخة ولكن للتحذير من عواقب الانقلاب على اللغة العربية فإذا أردنا بناء منظومة أمن ثقافي عربي فلابد من وضع إطار مرجعي لذلك يؤطر تفكيرنا وخياراتنا الثقافية لماذا نختار هذا وندع ذاك لماذا ننفتح على هذا ونغلق مع ذاك كل هذا يظهر الحاجة للإطار المرجعي الذي نحن بصدده لكي يسيج ويحصن خياراتنا ولكن هذا لا يعني إغلاق كل النوافذ أو عدم التفاعل مع معطيات العصر والحضارة الإنسانية فالأمن الثقافي لا يعني أن ننغلق على أنفسنا أو نرفض الآخر بل العكس فالانغلاق على الذات لا يحقق الأمن الثقافي بل إن معرفة الآخر والانفتاح والتفاعل معه هو من عناصر تحقيق الأمن الثقافي ولكن انطلاقا من استراتيجيتنا نحن أي من تصورنا نحن العرب وحاجاتنا وليس استجابة لرغبات الأخر فنحن نبني استراتيجيتنا ونقدر مدى انفتاحنا على الآخر لنحافظ على هويتنا وشخصيتنا الثقافية.
الأمر الآخر اعتماد استراتيجية عربية مشتركة تكون إنتاجية وعقلانية فلا يمكن أن نتحدث عن أمن ثقافي ونحن مستهلكين لثقافة الآخر وغير منتجين في حقل الإبداع بكل صوره فعلينا أن نوطن العقل المنتج لا المنتج ذاته إن الأمن الثقافي يستوجب تأمين وإنتاج وإبداع الثقافة الصالحة للناس بحيث يعيشون حياتهم المعاصرة بشكل سليم وإيجابي وهو يعني بناء ثقافة وجود ذاتي تستطيع وتقوى على الصمود والمواجهة بل والمبادرة والمنافسة في سوق الثقافة العالمي والفعل المؤثر أي الانطلاق من الدفاع إلى المبادرة والإنتاج الثقافي الذي يجعلنا نشارك الإنسانية في هذه الحضارة ونعتز بذاتنا الحضارية العربية والانفتاح والحوار مع الثقافات الأخرى من موقع الندية وهذا يقتضي بناء خطة أمن ثقافي عربي فيها تعاون أفقي عربي اعتمادا على لغتنا العربية وهنا تجدر الإشارة إلى مركزية ومحورية مناهج التربية والتعليم رافعة أساسية و المدخل المناسب لذلك فالمدرسة هي بيت الأمن الثقافي العربي والمدخل للتنشئة الاجتماعية السليمة وحتى تتحقق التنمية المستدامة بالمفهوم السليم في الأوطان العربية فثمة الكثير من مقومات التجديد الحضاري وأعني بذلك الاتكاء على المورد الثقافي الذي يدفعنا إلى الإصرار على هذا الملمح والتشديد على مسألة البحث العلمي والابتكار والنتاجات العقلية وتطوير العلوم الإنسانية والتطبيقية وتجديد الخطاب الديني والفكري وحث الحكومات العربية على تمكين الأفراد والجماعات في إطار الدولة الوطنية من وضع خطة وطنية قومية استراتيجية عبر المؤتمرات والندوات واستقطاب النخب المؤثرة الغيورة على مصلحة الأمة من محاولات الطمس والانسلاخ لجهة استعادة الشخصية الحضارية للأمة العربية والتفكير جلياً في المقومات الحيوية التي تحقق تلك لنا هوية وجودية في أمة قادرة على التفكير والإنتاج والإبداع والمنافسة وليس الاستهلاك والعيش متسولين أو أسواق استهلاك لمنتجات الغرب أو غيره.
ونختم بالقول إن كل هذه الأمور تحفز البحث عن الذات الثقافية وإبراز مضامينها وتطلعاتها وتربية المواطن العربي في هديها وسياقها وبهذا يمكننا الوصول إلى الحد الأدنى من الأمن الثقافي المطلوب في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية وقوة المعرفة ونود الإشارة في الختام إلى التفريق والفارق بين الأمن الثقافي والثقافة الأمنية مع أهمية أن يثقف المواطن أمنياً لكي يكون عيناً تحرس الوطن لا عيناً للخارج عليه.