الملحق الثقافي- نور شبلي :
يعدّ الحديث عن أهمّيّة الفنّ ووظيفته من الموضوعات الرئيسة لفلسفة الفنّ ونظريّاته، وحديثاً غائصاً منذ القدم مع أفلاطون وأرسطو، ولا ينفكّ هذا الحديث قائماً، وتتجدّد الأسئلة حوله ، بل إنّ بعض الفلاسفة اختزل تعريف الفنّ بتعريف وظيفته ، وكان للفلاسفة اتّجاهات عدّة في التنظير للوظيفة الموكلة للفنّ ؛ وتنوّعت الوظائف التي أولوها للفنّ بين الاجتماعيّة والاقتصادّية و الثقافيّة ، ومنهم من جرّد الفنّ من تلك الوظائف داعياً إلى النظر إليه بوصفه فنّاً، وإهمال الوظائف الأخرى؛ كما حصل عند دعاة نظريّة الفنّ للفنّ، وفي أثناء هذا تباينت آراء فلاسفة الفنّ حول أهميّته؛ فمنهم من رأى الفنّ ضرورة لا غنى عنها كما عند « آرنست فيشر « ، ومنهم من عدّه ترفاً زائداً يمكن الاستغناء عنه مثل « سبنسر « ، وقسم آخر تنبّأ بموت الفنّ في المستقبل وهذا ما أدلى به « هيغل وموندريان « ، وهنا ينهض التساؤل الآتي : هل الفنّ ضرورة أو ترف زائد في حياة الإنسان؟ وهل من الممكن فعلاً أن يتلاشى ويموت؟ وهل يمكن أن تعيش المجتمعات خالية من الفنّ؟
إن نظرة أوّليّة لتاريخ الفنّ عبر عصوره تدلّل على حضور التعبير الجماليّ الفنّيّ للإنسان أثناء فهمه للواقع من حوله وتعامله معه ، وتثبت حاجة الإنسان إلى الجمال والفنّ عبر مراحل وجوده المختلفة منذ العصور البدائية وإلى العصر الحاضر، فـ « إنّ عمر الفنّ – كما يرى آرنست فيشر- يوشك أن يكون هو عمر الإنسان ، فالفنّ صورة من صور العمل، والعمل هو النشاط المميّز للجنس البشريّ» / ضرورة الفن ص ٢٧/ ولذا فإنّ الفنّ كما يعرضه تاريخه هو ضرورة بوصفه حاجة جماليّة تعبيريّة إنسانيّة اجتماعيّة ؛ أي حاجة وجوديّة ؛ فالفنّ تعبير للإنسان عن الإنسان في الآن نفسه ، وإن لم تكن وظيفة هذا التعبير الفنّيّ جماليّة محضّة، وخالطها وظائف أخرى نفعيّة أو سواها، إلّا أن الجمال الفنّي كان حاضراً وملازماً للإنسان عبر مراحل وجوده، وحاجة جماليّة فنّيّة وجوديّة لا غنى عنها في تعامله مع الواقع الذي يحيط به.
وتنوّعت الأنواع الفنّيّة التي تفّنن الإنسان بإبداعها؛ من رقص ورسم ونحت وموسيقا ومسرح ، تبعاً لتنوّع الحاجات الجماليّة للإنسان، وإنّ كلّ نوع فنّيّ عبر خصائصه النوعيّة وسماته المميّزة لبّي حاجة فنّيّة عند الإنسان فنّاناً كان أم متلقيّاً ؛ فللشعر مثلاً ضرورة لا يسدّها السرد، وللمسرح ضرورة أو حاجة تختلف عن الضرورة أو الحاجة التي يلبّيها فنّ آخر مثل الموسيقا وهكذا دواليك ، ولا يمكن لأيّ نوعٍ فنّيّ أن يحلّ محلّ نوع فنّيّ آخر، ويسدّ الحاجة الفنّيّة إليه أو يلغيها ، وعليه فإن تنوّع الأنواع الفنّيّة لا يُغني فيها أحدها عن الآخر في إشباع الحاجة الفنّيّة، ولذلك نجد في نظريّات الفنّون حديثاً عن حاجة غنّائيّة وأخرى دراميّة أو سرديّة [يراجع في هذا كتاب المدخل إلى التجربة الجماليّة: د. سعد الدين كليب من ص119 إلى 122] . وتأسيساً على ما سبق ثمّة ضرورة في حضور الفنّ عامّة، وكذلك ثمّة ضرورة في حضور كلّ نوع فنّيّ على حدة تبعاً للحاجة الجماليّة الفنّيّة التي يغنيها بحسب خصائصه النوعيّة وسماته التمييزيّة.
وبناء على ذلك أيضاً لا يمكن أن نعدّ الفنّ ترفاً زائداً يمكن حذفه من حياة الإنسان؛ ولا يمكن للفنّ أن يموت، ولا يمكن أن نبخس ضرورته، فالقول بموته أو زواله تنبوءات لم تجد صداها أو تمثّلها أو تحقّقها على أرض الواقع؛ فقد يموت أحد الأنواع الفنّيّة، وتظهر أنواع أخرى، وقد يتمظهر النوع الفنّيّ بنوع فنّيّ آخر، في مرحلة ما تبعاً للحاجة الجماليّة في سياقها الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ…، ولكنّ الفنّ عامّةً لا يموت، فموت الفنّ يعني موت الإنسان.
العدد 1117 – 25- 10-2022