حروب ذات نبرة مختلفة لا تعدم قدرتها على التلاعب بالعقول، والعزف على أوتار المشاعر الإنسانية، وحشد الناس وتنظيمهم في فريقين لا ثالث لهما فإما (مع) أو (ضد)، والتوريط في صراعات لا طائل منها سوى خلق أجواء متوترة تشوبها النزاعات.. هذا ما تفعله الأساليب الحديثة، وقد أصبحت من السهولة بمكان بحيث يمكنها أن تشتعل في أي مكان بفعل شبكة الوصل والتواصل العنكبوتية التي تؤجج شرارة الاشتعال، ومن ورائها الخوارزميات المفترسة التي تهيئ الأجواء لكل عداء.
فما إن يطلق أحدهم مثلاً تغريدة ما مستفزة حتى تنهال مئات التغريدات، ومنها ما يشبه نعيق الغربان استنكاراً، ومنها ما هو كتغريد الكنار استحساناً.. وكأن هذه المواقع المتنوعة التي تفرد مساحات مختلفة للتعبير عن النفس قد أوجدت مناخاً مناسباً لخلق حروب من نوع خاص قد تحدث تغيراً اجتماعياً في المفاهيم والأفكار، تختصرها عبارات، أو بضع كلمات هي في محصلتها تعبّر عن أمزجة، أو سلوك عام، أو أنماط تفكير لمن يطلقونها، وعن بيئة اجتماعية، وثقافية، وأخلاقية يعيشون فيها تعكس مدى تقبّل أحدهم للآخر.. وغلالة رقيقة قد تكون سوداء، أو شاحبة، من ورائها عيون ترصد لتستفيد.
أما المسائل المطروحة في فضاء تلك المساحات الإلكترونية الرحبة فهي بلا حدود إذ تتنوع بين السياسية، والدينية، والاجتماعية، والفنية، والأخرى التي تشكل رأياً عاماً في المجتمع إلى آخر ما يمكن أن يثير الجدل، أو يخلق النزاع، أو الوفاق بين المتحاورين الافتراضيين، والساحة المفتوحة على عدد لامتناه من المشاركين في الجدل، أو الحوار هي تشجع، وتحفز عندما لا يحدها عدد إذا ما استقطب حدث ما إليها الاهتمام، والتفاعل المتبادل بين الأطراف المتحاورة.
كل هذا يحدث وقد يكون مقبولاً في نطاق تبادل الأفكار الجيدة، والخبرات المفيدة بين الناس، وعندما يدور النقاش المتزن حول مشكلات حيوية تجد لها الحلول الضرورية.. إلا أنه على الجانب الآخر منه يخلق نوعاً من التمزق في نسيج المجتمع عندما تنقسم الآراء بشكل حاد في تضاد، وتتشكل بذرة العداء لتبدأ بالنمو، والظهور فوق سطح الأرض.. وإذا بالفرقاء يعلنون الحروب الكلامية فيما بينهم، وساحتها الفضاء الإلكتروني المفتوح، وهم يستثيرون غضب مَنْ لم ينضم إليهم بعد، بينما الآراء تنقسم، والخلاف يستعر، والثقافات التي تسري بين طبقات المجتمع تكشف عن مواطن الخلل فيها، والضعف.
والقضايا السياسية، والأخرى الدينية هي أكثر الموضوعات إثارة للجدل الذي سرعان ما يستعر ليتحول إلى غضب يفرز التعصب، والمهاترات، كما التنمر، واستسهال التعدي اللفظي على ذلك الآخر الذي اختُلف معه، وكأن معايير الخجل، والحياء، والأدب لم تعد قائمة إذ ينعكس ذلك في سلوكٍ يُمارس، أو قرارٍ يُتخذ.. ولا أسهل من إشعال مثل هذه الحروب من خلال صورة تُنشر، أو بعبارة مختصرة تُكتب مادام مَنْ يطلقها أكيداً من وصولها في لحظتها إلى كل أحد، بل إلى كل مَنْ يمسك بيده بجهاز ذكي.
أما المنصات الإلكترونية التي ترحب بمستخدميها، وتفرد لهم صفحاتها لأن يصولوا ويجولوا فوق مساحاتها في تعبير عن الذات بحرية، ودون أن تحد منها إلا في حال ما يتهدد مصالحها المباشرة، فإنها تقف مكتوفة الأيدي، وفي موقع المتفرج، عندما تشتعل صفحاتها بتلك الحروب الثقافية المعاصرة بين أبناء مجتمع واحد، أو أكثر من مجتمع، وخاصة في أوقات الأزمات.
حروب معاصرة متعددة الأوجه أصبحت تحل محل حروب السلاح هي للثقافة التي تتسلل عبر الأدب، والفن، والتي تغيّر الأفكار، وتؤثر في الوجدان، وأخرى للسياسة تبذر الفرقة، والشقاق، وغيرها للاقتصاد تثير الغضب، والثورات، وللعلوم أيضاً في التنافس، والسباق، وكذلك للإعلام بما يغذي النفاق وهذه لها ألف منفذ ومنفذ، وهي جميعاً تأتي بمفاعيلها في مجالها.. كما تتعاظم، وتتفاقم كلما أسعفتها الحضارة بوسائلها المتطورة ما لم نعرها التفاتة نعيد فيها التقييم، والتوجيه.
إشارة، أو عبارة تأتي في السياق لعلها تسقط كحجر في بحيرة ساكنة فتجعل من دوائر الاهتزار دوائر لعودة الوعي، أو لعلها تفيد في تعديل المسار.
* * *