ذاكرة…ساعتان من الأدب مع الروائي يوسف المحمود

الملحق الثقافي:

الكاتب الراحل الأستاذ يوسف المحمود الصحفي الذي ترك الأثر العميق في الاجيال، عشنا معه وتعلمنا منه في الحياة والصحافة في هذا الحوار الذي أجراه معه الكاتب جودت حسن نستعيد محطات منه:
هناك مسافة ربع ساعة بالسيارة تفصل بين بيتي وبيت يوسف المحمود في(كفر شاغر) بمنطقة الدريكيش.. لقد كنت أعتقد أنني الأكثر بؤساً في منطقة الشرق الأوسط الكبير والصغير، وإذا بي أكتشف فجأة أن الروائي (يوسف المحمود) أكثر مني بؤساً بدرجات فتنفست الصعداء وقلت لنفسي(لم أعد مركزاً للبؤس أبداً، لقد اختطفه مني يوسف المحمود) ..
عندما وصلت برفقة أحدهم إلى باب البيت فوجئت..خرج من داخل الغرفة مسلماً علينا بحرارة وتواضع قلما تجد له مثيلاً في عصر الموبايل..!كان يرتدي قميصاً أعتقد أنه ينتمي إلى عصر ما قبل الاستقلال وبنطالاً أكثر بؤساً لدرجة خطر لي أن أسأله ما إذا كان ثمة من حيوان علكه و(جعله) بهذه الطريقة البدائية، لكنني صحت وفكرت في نفسي: (لم أعد بائساً)..في الوقت الذي وصلت فيه أنا إلى تبليط البحر (عنوان مجموعة لي قد تصدر في يوم ما) فإن يوسف المحمود لم يبلط بيته الصغير الذي لا تتجاوز مساحته الخمسين متراً ألا تتعجبوا من ذلك.. في الدريكيش عجائب وغرائب أكثر مما في أمريكا الشمالية والجنوبية..قدمت لنا زوجته صحنا من (الصبير) وشربت منه بإبريق ألمنيوم من سبعينات القرن المنصرم، أما مرافقي الطبيب فاكتفى بشرب فنجان قهوة وكان يحدق بي يوسف المحمود وتهمس لي عيناه بطريقة درامية: (هل هذا هو يوسف المحمود؟
هل هذا الجسد النحيل بالملابس التي (جعلكتها) الحيوانات والأيام هو كاتب رواية – مفترق المطر- وحارة النسوان- وسلامات أيها السعداء- والمفسدون في الأرض- والـ( اللحم الجائع)؟ قلت ليوسف المحمود
-متى تطبع أعمالك هذه ؟
– في الألفية الرابعة (قال ضاحكاً)
-اللحم الجائع على أقل تقدير!؟
– انثر لي الجزء الثاني من (مفرق المطر) و.. بعدين سنفكر باللحم والجوع ..
-ماذا أعطوك من الطبعة الثانية للمفترق والمطر؟ قلت بجدية كاملة
قال يوسف المحمود وكان يشعل اللفافة رقم عشرة منذ لحظة وصولنا: أعطوني خمسة آلاف ليرة فقط!
قلت وأنا أزرن بالبراد الذي يأكله الصدأ:
-خمسة آلاف ؟ هل هم يتصدقون عليك؟
قال يوسف المحمود بكآبة يخفيها الضحك المستمر
والنكتة التي لا تفارقه:
-المهم أننا نشرنا الكتاب بطبعة جديدة
سألت وأنا أصب المتة:
– واللحم الجائع؟ لماذا لا تحاول نشرها في اتحاد الكتاب أو وزارة الثقافة؟
قال لي حرفياً: (لن يفعلوا ذلك ..الرقابة عندنا حساسة بطريقة مدهشة.. والقراءة أقصد القارئ الذي يكتب تقريره في الكتاب ليس قارئاً جيداً مع الآسف.. هذه حقيقة وأنا لا أريد أن أسبب إرهاقاً لأحد..!
تساءلت وانا ألعن الحيوانات غير البريئة التي (جعلكت) قميص وبنطال يوسف المحمود:
-لماذا لا تشرب المتة معنا؟
قال يوسف المحمود: طوال عمري (بعل)..!
كانت المسافة نظرياً بشكل أفقي: التي تفصل هي بين (كفر شاغر) قرية يوسف وبين (عين الجاش) القرية المجاورة لا تتجاوز ضربة حجر..
صفن فيّ مرافقي وقال بكآبة:
-كنا أيام زمان نسمع أحاديث وشجار الضيعة بكاملها..اليوم لا نسمع شيئاً .. لم يعد هناك ضجيج في (عين الجاش) تحسب أن الناس لم يعودوا يعيشون إلا كأشباح..(تابع بعد فترة من الصمت) هناك شيء غريب في النفس البشرية راح يتلف الروح في كل مكان.. اللحم الذي كنت كتبت عنه لم يعد صاخباً كالحياة..الأشجار تتحدث أكثر من الناس.. الهواء يقرقع وله لغته التي يمكن تفسيرها..ما عدا الناس!
إنهم يغمغمون ويجمحون ولا يقولون إلا القليل .. في الصباح على هذه (البلكونة) الصغيرة أشعر أن كثيراً من الأشياء تضيع بلا ثمن ولا يمكنني أن أرد أيا منها.. هذا مؤسف!(قال بأسى)
-مؤسف كل هذا الصمت في هذه الطبيعة.. وهل تعتقد أن الأشجار ستحل محل (اللحم الجائع)؟
أبداً..الإنسان وحده له الحق في تفعيل حوارات كل هذه المخلوقات وهذه الأشياء ..لقد زرعت القليل من أشجار الليمون هنا.. انظروا .. (قام يرينا الشجيرات وقمنا معه)..السنديانة الكبيرة حزينة على شجرة العنب. لقد يبست .. لا أعرف .. أنا في الرابعة والثمانين من العمر.. لم أعد أفكر كثيراً بعيداً عن الدار هذه..وإلا لكنت حركتهم إلى أن يقولوا شيئاً.. تابع يوسف المحمود وهو يشعل اللفافة من اللفافة:
-علينا أن نترجم الجسد كله.. الجسد هو واسطة للدخول إلى الروح، من دون الجسد لا معنى لأي شبع أو جوع..روايتي (اللحم الجائع) تحكي بحسية ربما عن هذه الروح التي تقنعت بالجسد.. قد تكون الرواية الأكثر درامية في حوار لا ينقطع بين الناس والناس.
بين البشر والأحجار والشجر .. الأدب هو (واقعية) لا تعرف الخجل..
قاطعت يوسف المحمود مذكراً إياه بمقولة مارون عبود رحمه الله القائلة: (إن الفن وقح لا يستحي) فأكد لي قائلاً:
-بلى …هذا صحيح بطريقة مطلقة.. الأدب يقتله التهذيب .. هذا التهذيب الذي يشطب الجسد وما وراء الجسد.. اتركونا من الأدب؟
هل نسخن إبريق المتة..!؟
قلت في سري وأنا أفكر بأكثر من رواية في نفس الوقت: أجل .. اتركونا من الأدب..!

العدد 1120 – 15-11-2022

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى