الثورة – أديب مخزوم:
مرت منذ أيام الذكرى السنوية الثالثة لرحيل الفنان الرائد عزيز إسماعيل ( 1927ـ 2019 ) ، ومن يعود إلى الكتاب الذي أصدرته الكاتبة سهام ترجمان عام 1986 تحت عنوان: جبل الشيخ في بيتي، يكتشف مدى قدرته على ملاحقة أدق التفاصيل، رغم أنه في لوحات أخرى منشورة في الكتاب، كان يقترب من التشكيل الرمزي، ولوحة غلاف الكتاب تدخل ضمن هذا الإطار . إضافة لدوره الإيجابي والطليعي في التدريس الفني ، وخاصة في مركز أدهم إسماعيل، بطرقه المنهجية الأكاديمية، ومع ذلك ترك لطلابه الحرية في إضفاء اللمسات الذاتية على اللوحة، وذلك لتأكيد الخصوصية والتفرد في العمل الفني. ولوحاته المتنوعة، تضاف إلى لوحات شقيقيه الرائدين أدهم ونعيم، ويمكن اعتبار اللوحات الثلاثة، في هذه الظروف المأساوية، التي نعيش فصولها اليومية، بمثابة الأوكسجين، الذي يبعث النشاط والفرح والمحبة، ويؤكد أن الحياة مستمرة، رغم كل الأهوال والويلات المقروءة في الحروب المتواصلة دون توقف أو نهاية.
ومنذ البداية برز كأستاذ في الفن الواقعي، متمكن من التشريح والنسب والمفاهيم الصارمة، حيث كان يبحث عن الأداء العقلاني المدروس والموزون، في خطوات البقاء في حدود الشكل الإيضاحي ، الذي يحرك الظلال والألوان، ويمنح الأشكال المرسومة المزيد من الحيوية، ويوجه الفنان لإضفاء الألوان المتوهجة القادمة من تأملات انعكاس الضوء على الوجوه النضرة، والتعبير عن الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية ، التي كان يفضل أن يجسدها في أكثر الأحيان بألوان زيتية على كانفاس، ويمكن القول أنه انصرف لرسم البورتريه بالدرجة الأولى، حتى أنه يعتبر أستاذا لبعض الفنانين المعروفين برسم البورتريه . رغم أنه في مراحل لاحقة رسم بعض اللوحات الحديثة الخارجة عن إطار الصياغة الواقعية، واقترب في بعضها من القطع الجداري البانورامي .
ولقد ظلت الوجوه في برنامج يومياته بمثابة مرآة تعكس الحالة الداخلية والنفسية في الملامح ، وهذا يعني أنه وقبل المباشرة بالرسم يقوم بدراسة الجوانب المتعددة، التي لعبت دورها في حياة الشخصية المراد رسمها، حتى يستطيع الإفصاح بالظل والنور والنسب ومختلف التعابير الصادقة، التي يمكنها أن تريح عين المشاهد وتجعلها قادرة على الإحاطة بجوانب داخلية خفية في الشخصية المجسدة في فراغ السطح التصويري. فإذا أردنا تحليل لوحاته الواقعية من وجهة نظر تشكيلية وتقنية (وبالأخص لوحات الوجوه) التي قدمها خلال مسيرته الفنية الطويلة، فإننا نجده يجنح في أكثر الأحيان نحو معاينة سمات الأصل برزانة وهدوء وعقلانية، ودون أن يقع في فخ التأثيرات التسجيلية السهلة، وذلك لأنه يركز لإضفاء اللمسة الفنية المعبرة في نهاية المطاف عن أسلوبه وأحاسيسه ومشاعره الداخلية. لاسيما التي يجسد فيها الوجوه النسائية والطفولية النضرة والتي تحسن تلقي النور وتعكس جمال المراة وبراءة الطفولة مع جنوح نحو عفوية اللمسة وكثافة اللون في محاكاة سمات الأصل بوضوح وانسجام وأداء عقلاني مركز، حيث يبرز الدمج الحيوي بين الأداء الأكاديمي والواقعي ويعمل على صياغته وإظهاره بحيوية وبحركة تعبيرية منفتحة على إيقاعات اللون الحديث، على الأقل في ابتعاده عن النعومة المتبعة في الرسم الواقعي الاستهلاكي، وإظهار تقنيات الرسم الزيتي ضمن إطار البحث عن فضاء جمالي موزون ومدروس وخارج نزعات التأويل والتنظير والاجتهاد اللا محدود، فاللوحة بالنسبة له، رغم واقعيتها تشكل الدافع الأول لإيجاد الركائز ، التي تحقق الأداء الذاتي ، في خطوات مواجهة الموديل الحي، وتحسس إيقاعات اللون وكثافة المادة، وضمن مواصفات العمل الفني الحامل مسحة واقعية و أكاديمية.
والمعروف أنه وإلى جانب اتجاهه لاستعادة جماليات رسم الموديلات الحية، قام بإنجاز لوحة الوفاء التي تتصدر مبنى الاتحاد العام للفلاحين في دمشق بمشاركة الفنانين الراحلين علي السرميني وجريس سعد. والتي تعتبر من أكبر اللوحات الجدارية الفسيفسائية في سورية، حيث قام بإخراج العمل ورصف القطع الفسيفسائية بمساعدة ولديه علام وأدهم ، مستعيداً أسرار التقنيات الفسيفسائية العريقة، التي تحفظ القطع الملونة بألف لون ولون، من تقلبات المناخ ولمسات الريح والمطر وتؤكد شاعرية التواصل مع نبض التراث الحضاري ونبض العصر. مع الإشارة أن تأملاته للأعمال الفسيفسائية القديمة التي اختزنتها ذاكرته من مشاهداته لتراث انطاكية الغني ـ على حد قوله ـ باللوحات الفسيفسائية الجدارية القادمة من عمق الأزمنة القديمة شكلت المدخل الحقيقي لتحسس ودراسة واكتشاف أسرار ومراحل وتقنيات هذا الفن العريق شأن شقيقه نعيم.