الكاتب والرسام كما ضفتي نهر يفصل بينهما ماء، الضفة الأولى هي للكلمة، والضفة الثانية هي للصورة، وما يسري بينهما في مجرى النهر هو الفكرة.. والكاتب يرسم في مخيلته صوراً لكلماته، وما على الرسام إلا أن يترجمها بالخطوط، والألوان، وأحياناً تأتي الرسوم على خلاف ما هو متوقع لها من تجسيد صحيح للهدف المرجو منها، وكأن الضفة التي يقف عليها الفنان تبعد كثيراً عن تلك الأخرى حيث الكاتب، وغالباً أيضاً ما تقع الخيبة بين ما تم تشخيصه بالرسم، وبين ما كان متوقعاً له أن يكون عليه، والكاتب الذي يتلهف لصدور كتابه مطبوعاً لا يجد له ملاذاً بعد هذه الخيبة، وبعد أن أسقط في يده، إلا أن يصمت، ويذعن لذائقة الناشر الفنية التي استساغت الرسوم، وخرجت بها بين دفتي كتاب.
بل كيف سيكون عليه الحال عندما لا يجازف الفنان بوقته لقراءة كامل النص الذي تعاقد مع الناشر لرسمه، ويكتفي بالتقاط شذرات منه يترجمها إلى صورة هي ليست من مفاصل في النص كي تجدر الإشارة إليها، والتأكيد عليها من خلال الصورة المرسومة لترافقها؟.
كثيراً ما تتكرر هذه المطبات في طبعات الكتب، وفي كتب الأطفال على وجه الخصوص.. فكما أنه يوجد من الكتّاب مَنْ يستسهلون هذا الجنس الأدبي كذلك يوجد فنان حاله كحال ذاك الكاتب الذي وجد في عالم الطفل مرتعاً خصباً له قبل أن يدرك ماهيته، ومن دون أن يدرك أن أدب الطفولة هو ذلك السهل الممتنع الذي فاق بصعوبته كل الأجناس الأدبية الأخرى، وهو لم يضع في حساباته ذاك الناقد الذكي الذي هو الطفل ذاته، والذي ليس من السهولة بمكان إقناعه بما لا يرتقي إلى فكره، وذائقته الخاصة.
أما الكم الكبير من الكتب الذي يطرح الآن في الأسواق العادية، والإلكترونية على حد سواء، وفي معارض الكتب فقد بات يحتاج لإعادة نظر من حيث المحتوى، والإخراج.
وها هي التقنيات الحديثة أصبحت قادرة على إخراج الكتب بأفضل شكل ممكن لها، وها هو الذكاء الصناعي يبهرنا عاماً تلو الآخر بإمكاناته الفنية التي أصبحت متفوقة، والقادرة على أن تخدم صناعة الكتاب كثيراً.. وتالياً ألا يستدعي هذا من الفنان أن يتمثل روح النص قبل أن يشرع ريشته، ويفتح علب ألوانه؟ إذ إن على الرسم أن يوازي جودة النص ليكتمل الكتاب قبل أن يصل إلى يد قارئه صغيراً أكان، أم كبيراً.
لكن أحياناً يحدث العكس عندما تتفوق اللوحات برسومها التي تزين الكتاب على محتواه الفكري، والفني، إلا أنها للأسف لا تستطيع أن ترتقي بمستوى الكتاب إذا ما كان النص هزيلاً، أمر كهذا يكاد يشبه الإخراج السينمائي، أو التلفزيوني، والذي هو قادر على أن ينهض بالنص، أو أن يهبط به.. فالعمل المرئي ليس ناجحاً من دون نص جيد، وإخراج جيد، وتمثيل مثلهما أيضاً، وكل ما يتبع عملية الإنتاج الفني هذا.
وصورة الغلاف.. أليست هي بمثابة الإعلان، والدعاية التي تساهم في تسويق الكتاب، والترويج له؟ فإذا لم تكن موفقة بحيث تختصر المعنى، وتدل على المضمون بعمق، وذكاء، وتعبّر عنه شأنها شأن العنوان فإن هذا مما سينتقص لاشك من قيمة الكتاب، ويبخسه حقه.
مما يثير الاهتمام أن الطبعات الحديثة للروايات في الغرب الآن بدأت تغيّر من مشهد الرواية المطبوعة باعتمادها طريقة القصص المصورة (الكوميكس) للكبار، وفي صحوة جديدة للصورة وقد أصبحنا في عصرها بعد أن تراجعت فكرة القصص المصورة لعقود من الزمن، وكانت قد راجت لدى بعض المجلات المتخصصة بالقصص للشباب في فترة السبعينيات، وفي الصحافة الساخرة في فترة الثمانينيات، وذلك في محاولة لاجتذاب القارئ، ولتُقرأ أحداث الرواية التي أصبحت مصورة من خلال اللوحات التي هي غالباً ما تكون بالأبيض، والأسود، بينما يتفاعل الرسام مع الكاتب عبر السطور، والخطوط، وبما هو في المحصلة لصالح العملية الإبداعية، والتسويقية بآنٍ معاً.
ولو كان الكاتب يتقن الرسم لاستغنى عن الفنان، والعكس صحيح لو أن الفنان يمتلك الموهبة الأدبية أيضاً إلى جانب موهبته الفنية.. إلا أننا لا نريد لخطوط الإبداع أن تتشابك بل أن تسير في توازٍ، وانسجام، واحترام لموهبة هذا، وذاك.