الثورة – أديب مخزوم:
بانتظار أن تتخذ الجهات المعنية قراراً يضعنا على عتبة الاحتفاء الرسمي بمئوية الفنان الرائد محمود حماد ( 1923 – 1988 ) وحتى لايتكرر التجاهل الذي طال العام الماضي، الفنان الرائد أدهم إسماعيل ، حيث مرت مئويته بتعتيم مخجل، علماً أنه من أوائل المجددين في حركتنا التشكيلية السورية المعاصرة ، ويكفي أن نشير إلى لوحته ( الحمال ) الموقعة عام 1951 والمعروضة في صالة الفن الحديث بالمتحف الوطني ، والتي كان فيها سباقاً في تجاوز السياق الواقعي التقليدي ، وتجسيد الموضوع بمساحات لونية مسطحة ومتداخلة ومتجاورة .
محمود حماد من كبار رواد الحداثة التجريدية الحروفية ، في الفن التشكيلي السوري والعربي، ومن الرعيل القادم من محترفات أكاديمية الفنون الجميلة في روما، ولقد تميز بغزارة الإنتاج والعرض على مدى أكثر من نصف قرن .
وأتجه بلوحات بداياته من الواقعية ، إلى الاختزال والتبسيط في تجسيد عناصر الطبيعة والأشكال الإنسانية ، ثم انعطف في مطلع الستينيات، نحو التجريد الحروفي، ووصل إلى مرحلة تغييب المعنى المباشر للكلمة أو الجملة ، وكان يجعل الحرف العربي وسيطاً لغاية جمالية وتشكيلية خالصة ، وفي هذه الحالة الأخيرة، أصبحت الحروف غير مقروءة، لأن الهدف هنا لم يعد في إيصال المعنى الأدبي ، وإنما في إظهار الجمالية الخفية التي تختفي وراء تلك التشكيلات التجريدية الخالصة، التي تبتعد عن أي قيد إلا التقيد بالضرورات الجمالية والفنية الصرفة .
وهو على عكس الكثير من الفنانين الحروفيين المحدثين ، بنى إيقاعات التشكيل الحروفي المتصاعد من وتيرة بحثه الجمالي عن اختبار حساسية الحركات الارتجالية للخط العربي ، و في هذا المجال قدم لوحة موزونة ومدروسة بعيدة عن أجواء العبث والتطرف الموجود في أعمال الكثير من الفنانين الحروفيين العرب المعاصرين . وفي لوحاته يمكننا التماس إيحاءات الإحساس بجمالية تسطيح المساحات ، وتركيب الطبقات اللونية، وهذه الوسائل تابعها في لوحاته كتعبير جمالي قادم من طاقات الإحساس الحي بجماليات اللوحة الفنية الحديثة .
إلا أنه ورغم جنوحه بخلفيات لوحاته نحو العفوية والتلقائية اللونية، فإنه في النهاية كان يوازن لوحته للوصول إلى الصياغة الفنية المطلوبة ، بحيث نستطيع تمييز أسلوبه الخاص . وهو حين كان يضع حركات الحروف بفرشاة غريضة في أكثر الأحيان ، فإنه كان يبرز معاني التجلي النوراني أو الضوئي الذي يؤكد جماليات الكونترست اللوني بين المظلم والمضيء . وقد جمع في بعض لوحاته بين الحروف والكتابات العربية المقروءة وبين الإشارات الحروفية التي لاتهدف إلا لغايات جمالية تهدف الوصول إلى اللوحة الفنية الحديثة المنطلقة من حركة الخط العربي، الذي يعتبر من أبرز عناصر حضارتنا العربية ، وهكذا استطاع أن يجمع بين الوجهين الأساسيين لكل انطلاقة فنية سليمة ، العقلي والانفعالي .
. وإذا كان قد استعاد كغيره بعض جماليات وتقنيات اللوحة الغربية الحديثة، إلا أنه كان يبني عالم لوحاته الحروفية من منظوره الخاص، ومن مناخات الحركة اللونية العفوية, التي هي مدخل أساسي لنسيج الذات، الذي يحتضن في النهاية حركة وتكاوين التأليف الحروفي والتجريدي الخاص.
إذا تأملنا أعماله التجريدية الحروفية التي قدمها في مسيرته الفنية، نراها تسجل خطوات الدمج ما بين الحركات اللونية العفوية للحرف العربي، والتكاوين الهندسية المسطحة للمساحات اللونية، التي نجدها في أحيان كثيرة محددة بخطوط مستقيمة تخترق التشكيلات الحروفية. كل ذلك في خطوات تجسيد التكوين أو التأليف الذي يوازن بين البنى الهندسية العقلانية والرؤية العاطفية أو العفوية.
الواضح أن محمود حماد وفي غالبية لوحاته التجريدية –الحروفية، كان يرسم تنويعات الحركة الدائرية وتشعبات الحركة الملتوية والصياغة الهندسية التي تبرز من خلالها إيقاعات حركة الحرف ، للوصول إلى الجوهر الذي يعني في النهاية تجسيد المختصر المفيد، الذي يوجز معطيات الحضارة القديمة والحديثة، العربية والغربية، العاطفية والعقلانية، في محاولة للتوفيق بين العالم المادي والروحي للحرف. وهكذا كان يصوغ حروفه وكلماته، على أرضية لونية تجريدية منفذة بعفوية وتلقائية وحرية .
التالي