اعتدنا العامية، ولغة الشارع، بما تحمله من قيم، وبشكل مفرط حتى لم نعد نذكر الفصحى، وما تحمله هي الأخرى من قيم، إلا في مجالات محددة قد أصبحت ضيقة.. والعامية تغدو كموج البحر تسحبنا نحو الأعمق فالأعمق.. وهذه الحال هي كحال من لا يعرف السباحة فلا يستطيع أن ينقذ نفسه إذا ما قُذف في عرض البحر.. وها هي وسائل تواصلنا السريعة تشجعنا أكثر من أي وقت مضى لأن نعتمد اللغة العامية المتداولة بيننا في كل محادثاتنا المكتوبة حتى كاد بعضنا يفقد تماماً النطق، أو الكتابة باللغة الفصحى.
هكذا يغدو حالنا في حياتنا العادية، والأمر يكاد يكون مشابهاً في وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، وهي تبث برامجها بالعامية، وبلهجاتها المختلفة بين بلد وآخر، وكذلك الفنون من مسرح وسينما.
في العقدين الأخيرين من القرن الماضي انتشرت ظاهرة الكتابة بالعامية التي وصلت إلى الأدب شعراً، ونثراً.. وإذا كنا في البداية نستهجن بيننا وبين أنفسنا أن نقرأ نصاً يُفترض أنه أدبي بلغة دارجة لا بالفصحى، ولا نتخذ موقفاً واضحاً في استنكار ذلك فإن موقفنا المتأرجح آنذاك حيال هذا الأمر جعل العامية تتمدد، وهي تمد أذرعها بجرأة أخطبوطية باتجاه الرواية، والقصة القصيرة، حتى وصلت حالياً إلى الترجمة.
أجل الترجمة لا تستغربوا.. وها هي الترجمات المطبوعة حديثاً لدى بعض جهات النشر أصبحت تصدر باللهجة العامية بعد أن كان الناشر يبحث جاهداً ليعثر على مَنْ يترجم بلغة متمكنة عالية، وصافية تأتي بلب المعنى، وتثريه بجماليات اللغة العربية.. وبعد أن برزت أسماء مرموقة في هذا المجال، وقدمت أفضل الترجمات ومنها أسماء مازالت عالقة في ذاكرتي، وذاكرة كل من قرأ ترجماتهم كأمثال: (سامي الدروبي)، و(صالح علماني)، و(سامي خشبة)، و(نبيل الحفار)، وغيرهم كثر.
ولو عاد أحدنا إلى أي من المكتبات القديمة في المنازل لوجد فيها تلك الترجمات الراقية التي كانت تزخر بها المكتبات العامة، ولقرأ على الأغلفة تلك الأسماء اللامعة لمترجمين عرفوا في أرجاء الوطن العربي بأمانتهم العلمية، ودقتهم في الترجمة، ولغتهم السليمة، والقراء يقدّرون الجهود التي يبذلونها لتخرج ترجماتهم إلى الجمهور بأفضل ما يمكن لها أن تكون عليه.
وإذ نبحث باستمرار عن أسماء هي كالنجوم في سماء الترجمة، نجد أن أغلبهم قد غاب لسببٍ، أو لآخر، ومَنْ أتى إلى الساحة من بعدهم يبذل قصارى الجهد لكيلا تكون هناك هوة فاصلة، أو أن يجد القارئ فارقاً واضحاً في جودة الترجمة بين جيل غاب، وجيل نبت من بعده ليكمل المسيرة.. إلا أن هؤلاء باتوا أيضاً يغيبون، أو يتوارون عن أنظار الناشرين بعد أن جاء من بعدهم مَنْ سيجعل من الترجمة أمراً أكثر سهولة عما كان عليه إن لم نقل استسهالاً عندما يعيد ترجمة أمات الكتب الأجنبية، وأشهر الكلاسيكيات إلى العامية في طبعات جديدة لعلها تتماشى وموجة العصر السائدة من فقدان اللغة، والاتجاه بها نحو الانحدار.
وأذكر أن مسلسلاً تلفزيونياً لي قبل أكثر من عقد من الزمن طُلب إليّ تحويل حواره إلى العامية ففشلت، ولم أعرف كيف أكتب تلك العامية، واضطررت آنذاك لأن ألجأ إلى مَنْ يترجمه إلى العامية، وأقول ترجمة لأن الأمر كان بالنسبة لي بمثابة عملية ترجمة إلى لغة أتحدث بها، ولا أعرف كتابتها.. أما الآن وقد بتنا نستخدم تلك اللهجة العامية بكثرة عبر وسائل التواصل فقد استسهلنا الأمر بل وأتقنا كتابتها بسهولة، ويسر، وإذا ما كتب أحدنا بالفصحى أصبح غريباً عن القطيع الذي لم يعد يعرف قواعد الإملاء حتى.. بل قد يناله من السخرية ما يناله، وكأنه قد اقترف ذنباً.. فهل هو نهر الجنون الذي تحدث عنه (توفيق الحكيم) في مسرحيته، وعلينا جميعاً أن نشرب منه حتى لا نفقد لغة التواصل بيننا!؟.. عجيب ما آل إليه حالنا ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما نحوّل الترجمات الرصينة للكتب إلى العامية، وقد يسقط بعضها إلى هاوية لغة الشارع، أو ما دونها من غير تأنيب للضمير، أو شعور بمسؤولية الكلمة، أو بالمسؤولية تجاه المترجم الأول الذي شحذ كل أدواته ليخرج إلى العالم بترجمة تليق به، وبالكاتب المترجم عنه.. فإلى أي طريق نتجه، وإلى أين سنصل؟
سيظل هذا التساؤل مفتوحاً مادامت عجلة المطابع تدور، ولا مَنْ يضبط، أو يوقف حتى نرى ماذا ستأتي به ترجمات العامية من كوارث ربما مستقبلية.