تصدّع القشرة

منذ ردود الفعل الأولى للمجتمع السوري على كارثة الزلزال، تحضر في ذاكرتي حكاية سردها ممدوح عدوان منذ سنوات بعيدة عن قرية في أحد أريافنا قرر مالكها الإقطاعي بيعها لمالك آخر. فخشي أبناء القرية، الذين لا يملكون فيها إلا عملهم اليومي، مالكاً جديداً لا يعرفون عنه شيئاً ما دفعهم كي يرجو الاقطاعي العدول عن قراره، فقد اعتادوا على عملهم عنده، لكن حين لم يغير رجاؤهم من الأمر شيئاً. طلبوا منه أن يبيع القرية لهم ما دام مصراً على البيع. وحين سألهم – مستغرباً – “من أين ستأتون بالمال؟” قالوا: “سنحصد قمح الآخرين، ونجمع أجورنا. فقط أمهلنا لنهاية موسم الحصاد”. وهذا ما حصل. فتكدست القرية بكامل رجالها ونسائها وأطفالها في سيارات أجرة متهالكة، قاطعة طريقاً شاقاً إلى حقول بعيدة، حيث أقامت تحت العراء، وشح الطعام، حتى انتهت من حصاد آخر سنبلة قمح، وجمعت المبلغ المطلوب.

يقول الراوي: كان الرجال والنساء يواسون أنفسهم بالتندر على الوقائع القاسية، كما هو الحال حين أوقف شرطي السير سائق سيارة الأجرة المكتظة بالركاب، ليقول له وهو ينظر بدهشة إلى العدد الهائل من الأشخاص المتكدسين داخلها: “سأعفيك من المخالفة إن أخرجتهم من السيارة وأريتني كيف أدخلتهم إليها”، وكذلك كان حالهم في التندر على قصص المعاناة من الليل البارد الموحش، والتقشف إلى أقصى ما يمكن في الطعام، وساعات العمل الطويلة الشاقة من أول ضوء للشمس وحتى غيابها الكامل. غير أن الصورة لم تكن دائماً بهذا الإشراق، فقد وجد بين الحصادين من تهرب من العمل خلسة بعيداً عن الأعين، وفتاة أغوت المراقب ليغض النظر عن تقاعسها، وثانية لم تحتمل مشقة العمل فهربت إلى المدينة لينتهي بها الحال في أحد ملاهيها. لكن.. – يقول ممدوح عدوان – هل يجوز أن نتوقف عند هذه الحالات الفردية، وننسى بطولة القرية؟

سجلت اللحظات الأولى لكارثة الزلزال، وحتى اليوم، مئات الحكايات عن التكافل الاجتماعي الوطني، والتضامن الإنساني مع ضحايا الزلزال، فانهمرت المساعدات العينية والمادية على مراكز جمع التبرعات في الكنائس والمساجد والجمعيات الخيرية على امتداد الأرض السورية. وتطوع مئات الشباب بنقل هذه المعونات إلى مراكز الإيواء المؤقتة، ودفع كثيرٌ من أصحاب الآليات الثقيلة ألياتهم نحو المناطق المنكوبة لمساعدة مئات الجنود والمسعفين المشاركين بأيديهم العارية في رفع البيوت المنهارة وإنقاذ المحتجزين تحت أنقاضها. وتبرع محتاجون بالقليل المتوفر لديهم من وقود وطعام وملابس، وأكتفي هنا بما حدث مع أحد المتطوعين أثناء إيصاله بسيارته الشخصية مواد إغاثة، حين استوقفه عسكري مناوب على حاجز لأحد الأرياف البعيدة، ولا حظ أن السيارة مملوءة بالمواد الغذائية المرسلة لأهلنا باللاذقية وحلب – على حدّ تعبير المتطوع – فطلب منه الانتظار قليلاً وغاب عن المكان نحو خمس دقائق عاد بعدها ومعه كيس رز صغير وقال له حرفياً: “هاد جبتوا من بيتي والله ما عندي غيرو وأنا عسكري قاعد لحالي، بس قلت أول ما تجي سيارة معها تبرعات بدي أعطيهن هالكيس لساعد فيه العالم……”

زميلة إعلامية متطوّعة في عمليات الإغاثة تدون على صفحتها يومياً ما يحدث معها ومما كتبته أنهم أعطوا سلّة غذائية لواحد من أهالينا المتضررة بيوتهم من الزلزال. فأمسكها متل ما هي وأعطاها لجاره. قلنا له لا هي إلك، وفي سلة حنعطيها لجارك. قال لا .. يأخد الاثنتين لأنه متضرر أكتر مني. وتذكر المتطوعة أنه في مرة ثانية أثناء توزيع السندويش في ساحة أحد الجوامع، كان هناك ولد ينظر إلى كيس السندويشات فقدمت له إحداها. لكنه قال لها: “يسلمو خالتو أنا من الحارة وبيتنا منيح ما صار له شي. اعطيها لحدا جاية على الجامع لأن بيته راح”.

غير أن الصورة لم تكن دائماً بهذا الإشراق، فقد وجد من أخذ معونات بغير حق، ومن اؤتمن على توزيعها فلم يكن على قدر الثقة، ومن أشاح بوجهه عن كلّ المبادرات الجميلة، وراح يتصيد – أو يختلق – الحالات البشعة فيثبط همة الناس، ومن استرسل خياله في الحديث عن معونات من أشخاص وجهات لم يفكروا أصلاً بإرسالها. ومن ينشر الخوف بترويج نصوص تدعي العلم، وهي أبعد ما تكون عنه.

ولكن هل يجوز – أخلاقياً ووطنياً وإنسانياً – أن نتوقف عند هذه الحالات الشاذة، مهما بلغت، ونتجاهل بطولة بلد؟.

آخر الأخبار
القطاع العام في غرفة الإنعاش والخاص ممنوع من الزيارة هل خذل القانون المستثمر أم خذلته الإدارات ؟ آثار سلبية لحرب إيران- إسرائيل سوريا بغنى عنها  عربش لـ"الثورة": زيادة تكاليف المستوردات وإعاقة للتج... تصعيد إيراني – إسرائيلي يضع سوريا في مهبّ الخطر وحقوقي يطالب بتحرك دبلوماسي عاجل جرحى الثورة بدرعا : غياب التنظيم وتأخر دوام اللجنة الطبية "ديجت" حاضنة المشاريع الريادية للتحول الرقمي..خطوة مميزة الدكتور ورقوزق لـ"الثورة" : تحويل الأفكار ... " الثورة " ترصد أول باخرة محملة 47 ألف طن فحم حجري لـ مرفأ طرطوس دعم مفوضية شؤون اللاجئين والخارجية الأميركية "من الخيام إلى الأمل..عائلات سورية تغادر مخيم الهول في ... قريبًا.. ساحة سعد الله الجابري في حلب بحلّتها الجديدة لأول مرة .. افتتاح سوق هال في منطقة الشيخ بدر الفلاح الحلقة الأضعف.. محصول الخضراوات بحلب في مهب الريح في حلب .. طلبة بين الدراسة والعمل ... رهان على النجاح والتفوق جيل بلا مرجعية.. عندما صنعت الحرب والمحتوى الرقمي شباباً تائهاً في متاهة القيم التقاعد: بوابة جديدة للحياة أم سجن الزمن؟. موائد الحرب تمتلئ بكؤوس النار ويستمر الحديث عنها.. العدالة لا تُؤخذ بالعاطفة بل تُبنى بعقل الدولة وعدالة القانون سيارة "CUSHMAN" المجانية.. نقلة حيوية للطلاب في المدينة الجامعية ميلان الحمايات الحديدية على جسر الجمعية بطرطوس..واستجابة عاجلة من مديرية الصيانة المعلمون المنسيون في القرى النائية.. بين التحديات اليومية وصمود الرسالة التربوية أكثر من 50 حاجاً سورياً يستفيدون من عمليات الساد العيني.. بالتعاون مع جمعية" يبصرون" سوريا تتعرض لسقوط طائرات مسيرة وصواريخ مع تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران