عاود سعر الصرف الارتفاع، فيما يبدو جلياً أن استقرار هذا السعر لأيام لم يكن أكثر من استراحة محارب، ليعاود بعدها الارتفاع وعلى هواه، وهو أمر يعكس توجه استراتيجية المرحلة على المستوى النقدي بأن يوازن السوق بعضه بعضاً وصولاً إلى سعر مستقر معقول.
توازن السوق معادلة جميلة، ولكن المعادلة ناقصة نقصاً شديداً، يجعل منها سقيمة غير قادرة على إبصار النور حتى قبل التجربة، فتوازن السعر يعتمد في واقعنا الاقتصادي والمعيشي على أمرين اثنين: أولهما دخل المواطن والقدرة الشرائية لهذا الدخل، وثانيهما الإنتاج ولا ثالث لهما.
فدخل المواطن متلاشٍ ولا يكفي لأيام من الثلاثين المكونة للشهر، ما يعني أن ارتفاع سعر الصرف بطريقته الحالية نفسها كفيل بالقضاء بل بسحق ما تبقى من طبقة قادرة على تأمين أشد الضروريات اليومية حاجة لها، بالنظر لكون ارتفاع السعر يعني تسعير السلع من التجار والصناعيين والمستوردين على أساس دولار أعلى بنحو لا يقل عن ألفي ليرة سورية، تبعاً لنواحهم الدائم على رأس المال وضرورة الحفاظ عليه ومنع تآكله نتيجة سعر الصرف نفسه الذي خلق لهم ثروات لم يكونوا يحلمون بها، ولو استمروا بالتجارة والصناعة لمئات السنين.
أما الإنتاج فهو المفتاح لجميع الأزمات الناجمة عن سعر الصرف، فاضمحلال الإنتاج كما هو حاله اليوم، يعني وبوضوح المزيد من الاستيراد، وذلك بالطبع يعني المزيد من الطلب على القطع، أي المزيد من الضغط على سوق القطع، وبالتالي المزيد من الارتفاع تبعاً للمعادلة البديهية في الاقتصاد: كثافة الطلب وندرة العرض تعني التفرّد بالسعر ووحشيته في آن معاً..
فبعد أن كنّا بالصناعات المستوردة، أصبحنا في الاستهلاكيات، لنمسي مستوردين للمنتجات الزراعية في بلاد أطعمت الملايين على مدى قرون، وذلك يفرز سعراً لا يطيقه المواطن، وبالتالي عدم الشراء، لتعود دورة رأس المال إلى مستقرّها الصفريّ خاسرة مع نتيجة كارثية وهي دمار الطبقة الفقيرة التي تشكل الأغلبية العظمى في مجتمع اليوم، ودمار العمل التجاري وحتى النشاط الاستيرادي، لأن السوق لن يعود فيها وقتذاك من يشتري، وكلنا يعرف أن الطبقة القادرة على مواجهة غول الغلاء تختلف سلتها الغذائية والاستهلاكية عمّن يستهدفهم الغلاء والتربّح منهم.
لا أحد يعرف على وجه اليقين سبب الحاصل حالياً، فالأرض موجودة والفلاح موجود والجهات التي تتغنّى بدعم وأولوية الإنتاج موجودة، ليبرز التاجر أو المستورد وحتى الصناعي فجأة ليكسر المعادلة كلها ويستفرد بالقرار، فالحمضيات قد انتهت ومن يزر اللاذقية اليوم يعرف عماذا نتحدث، والزيتون قد انتهى حريقاً وسوقاً وكذلك الشوندر السكري والذرة الصفراء انتهت كذلك، ليبقى لدينا فقط الخضار والورقيات الخضراء التي لا يعرف المواطن حقاً هل هي مسقية من مياه نظيفة أم مالحة قذرة..
اليوم ما زال لدينا بقايا فرصة يمكن أن نقنع فيها الفلاح بالعمل والإنتاج ليعود الوضع إلى ما كان تدريجياً، أما إن استمر الوضع على حاله، فالأكيد أن سلعة واحدة لن تكون من إنتاجنا بعد اليوم.. طبعاً من نافلة القول: إن الحديث عن الصناعات التحويلية من علكة وسائل للجلي ومحارم ليس حديثاً يهم المواطن الذي لا يمكنه التغذي عليها، بل يهمه الإنتاج الغذائي القادر على إطعامه بما يسد الرمق.. ليس أكثر.

السابق