الثورة – يمن سليمان عباس:
تحت كل حجر حكاية إبداع وآثار تدلُّ على عظمة الإنجازات الحضارية السورية عبر عشرة آلاف عام..
وسورية هي متحف في الهواء الطلق كما يقول علماء الآثار.
الفسيفساء فن سوري عريق.. مازالت جمالياته تتكشف كل يوم.. عن هذا الفن صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب كتاب (من أنطاكية إلى فيليبّوبوليس.. التجسيدات الأسطورية المصوّرة في لوحات الفسيفساء)، تأليف: ماهر محمد الجباعي.
ومن المعروف أنَّ فن الفسيفساء يعدُّ أحد أهم فنون التصوير التي خلّدت عمل الإنسان في الفترة الرومانية، والأساطير التي تروي قصص الآلهة والخلق الأول والمغامرات وتضحيات أبطال ذلك العصر، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بهذا الفن.
تظهر أنطاكية أولاً ضمن هذا النطاق الجغرافي المعروف بسورية الطبيعية كمصدر لأكبر مجموعة فسيفساء رومانية. ومجموعة الفسيفساء التي اكتشفت في مدينة فيليبّوبوليس (شهبا الآن)، تعدّ من أجمل المجموعات الفسيفسائية التي اكتشفت في المشرق والتي تعود للفترة الرومانية، وعكست مدى العمق الفكري والثقافي والذوق الفني للفنان السوري في ذلك العصر.
آمل أن يُسهم هذا الكتاب في سدِّ الفراغ في المكتبة العربية، بما يقدمه من دراسة وافية لمجموعة لوحات فسيفساء فيليبّوبوليس، التي تعود للعصر الروماني ومقارنتها مع مثيلاتها، التي صُوّرت في فسيفساء أنطاكية، التي تعدُّ المجموعة الأكمل والأمثل في المشرق.
– شهباء الشام..
اما فيليبوبوليس (شهبا اليوم) فهي مدينة تبعد عن دمشق جنوباً 90 كم، وعن السويداء شمالاً 19 كم، وترتفع 1045 م عن سطح البحر، وكانت من المدن المهمة في سورية في العصر الروماني، وتشتهر بأوابدها الأثرية النادرة.
تقع فيليبوبوليس على مخروط بركاني بسيط، متوسط قطره نحو500م، وفوهته البركانية صغيرة الحجم، ومنحدرها الشرقي أقل ارتفاعاً من مثيله الغربي، ما يعني تدفقاً للصبات البركانية باتجاه الشرق.
وقد بنيت المدينة القديمة فوق هذه الصبات الأحدث عهداً، وامتدت على منحدرات الفوهة البركانية.
بنيت المدينة في عصر الإمبراطور فيليب العربي (204ـ249م) واسمه اللاتيني ماركوس يوليوس فيليبوس ولأنها مسقط رأسه، فقد حملت اسمه، فبعد أن كانت قرية نبطية صغيرة، أمر الإمبراطور بتوسيعها وبناء عمائر ضخمة ذات طابع معماري مميز، وجعلها مدينة تضاهي كبريات المدن آنذاك وخاصة روما، فجاءت ذات مخطط نموذجي روماني الطراز، فالشارعان الرئيسان: الشمالي ـ الجنوبي والشرقي ـ الغربي يتعامدان بانتظام، وتشكل نقطة لقائهما في الوسط مصلبة محاطة بساحة بيضوية الشكل، وكانت المدينة محمية بسور دفاعي أبعاده (1300× 950م)، وكل ضلع مجهز ببوابة ضخمة على هيئة قوس النصر، وقد جُرَّت المياه إليها بوساطة أقنية حجرية محمولة على قواعد ذات أقواس.
عثر حول التلال المحيطة بالمدينة على أدوات صوانية تعود إلى نهاية العصر الحجري الحديث، واستمر السكن في بعض المدن المحيطة بها في عصر البرونز، مثل مواقع تل الدبة ـ اللبوة ـ الكوم.
كذلك في عهد اليونان والأنباط (القرن الثاني والأول ق.م)، ولكن المدينة أخذت أهميتها في العصر الروماني (منتصف القرن الثالث الميلادي) ولم ينقطع السكن فيها في العصور البيزنطية والإسلامية.
بدأت بعثة أثرية وطنية بالتنقيب في المدينة منذ عام 1962، ولازال العمل مستمراً، وكُشف حينئذ عن معالم دارة كبيرة من عهد الإمبراطور فيليب العربي، تتضمن أربع أرضيات فسيفساء ملونة، تمثل أساطير: ثِتيس (ربة البحر) .
في مبنى الحمامات الكبرى قرب الدارة، عُثر على عدد من اللقى المهمة، منها أجزاء من الرخام الأبيض، تعود إلى تماثيل الإمبراطور فيليب وزوجته مارقيا أوتاقيليا، وعثرت البعثة نفسها على مجموعة من الجرار الفخارية في أثناء التنقيب جنوب غربي المعبد الإمبراطوري، تعود إلى العهد الروماني، وعُثر على مقبرة جماعية مربعة الشكل، بداخلها مجموعة من الخرز والأساور البرونزية تعود إلى العهد الروماني، كما كشفت البعثة عن أنفاق المعبد الإمبراطوري الواقعة تحت منصاته، وتنتهي في أعلى المبنى البالغ ارتفاعه 15م.
أما أهم أوابد فيليبوبوليس، فهي: معبدان وثنيان، الأول يقع غربي المصلبة على حافة الطريق المتجهة شرق ـ غرب، ولاتزال ثلاثة من أعمدته الكورنثية قائمة، الثاني منها يقع جنوب غربي الطريق نفسها، ويبلغ عرض واجهته ثلاثين متراً، وأمامه ساحة كبيرة مبلطة، يحدها درجان عريضان في الجهتين الغربية والجنوبية.
بقايا القصر الإمبراطوري الملاصق للمعبد من الجهة الشمالية، ولايزال مدخله قائماً.