كلّ مسؤول في بلدنا مدان بالخطيئة في تقييم بعض المنظرين والمثقفين ممن يعطون أنفسهم كامل الحق في امتلاك حقّ التقييم والتقويم ، باعتبارهم يمتلكون المعرفة المطلقة ، والحق المطلق ، وهم على هذا الحال بريئون من الخطايا والأخطاء ، ويصدرون أحكاماً قطعية غير قابلة للنقاش أو التشكيك أو الطعن.؛ فكيف نتعامل معهم ؟ وكيف تكون آلية الحوار والنقاش معهم؟ وماذا ترانا نمتلك من آليات الحوار المفيد والمجدي؟
لعل صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ساوت إلى درجة كبيرة بين العالم والجاهل من حيث شكّل الحق في حرية التعبير ، وأعطت جميع البشر فرصاً متماثلة ومتساوية في إبداء الرأي والتنظير والشرح وحتى طرح النظريات العلمية والسياسية والاقتصادية ، ونقد الأعمال الإبداعية في السينما والمسرح والرواية والشعر ، وعرض دراسات وأبحاث عن الفضاء والكواكب وتفسير ظواهر الطبيعة وتحديد موعد وتاريخ وقوع الزلازل والهزّات الأرضية ، وقد يصل الأمر ببعضهم تحديد سلالات الأسماك في البحار والمحيطات ووضع أسس التفريق بينها وبين أسماك الزينة !؟
كلّ ذلك قد يبقى مقبولاً على مضض أمام حالات التقييم والتقويم للأفراد والشخصيات ، التاريخية منها والمعاصرة ، فنراهم يسبغون على شخصية تاريخية صفات ومواصفات وظروف الحياة المعاصرة ويعقدون جلسات محاكمة ومحاسبة ويصدرون بحقّها القرارات والأحكام ، دونما أدنى اعتبار لظروف العصر والبيئة وطبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية آنذاك.
وفي تقييم الشخصيات المعاصرة ، تحضر القوالب والصيغ الجاهزة ، فمن يعمل في الحكومة مدان بالفساد والتبعية والوشاية ونكران الجميل ، ومن يعمل في التجارة والمهن الحرة ، يكون تقييمه جاهزاً ضمن قوالب النهب والاحتيال وسرقة المال العام بالتواطؤ مع المسؤولين الحكوميين ، ويتوجب محاسبتهم بالسجن والتعذيب حيناً وبالإعدام في الساحات العامة حيناً آخر!
وتكرسبحة هذه التقييمات من جانب لابسي أثواب الثقافة والمعرفة والعفّة ، فيقدّمون أنفسهم كضحايا ممارسات غيرهم ممن يسعون لإحباطهم ، باعتبارهم مبدعين لا يضارعهم في إبداعهم شخص أبداً !
وهم في مسارهم وسلوكهم هذا لا يجدون من يواجههم ويتصدى لسفاهاتهم وتقييماتهم الخالية من أي معرفة وعلم ، فيتمادون في غيّهم ويضعون قائمة يتناولون أفرادها واحداً تلو الآخر وكأنهم يقدّمون عملاً منتجاً ، أساسه أوهامهم النرجسية الكارهة للغير والرازحة خلف عقدة معاداة الآخرين لهم ، فنراهم يختلقون المعارك الفارغة كونها غدت خبزهم وقوتهم اليومي.
وفي ظلّ سوء الأحوال المعاشية وتردي مستوى الدخل فإنهم يتمترسون في مواقعهم ، مدافعون عن (الفضيلة والشرف) ويكيلون الاتهامات ويختلقون روايات وقصص لبطولات لم يخوضوها ولم يعرفوها ، بينما يسعون لاقتناص فرصة الفوز ب (هدية) أو مكافأة تحت مسميات برّاقة .
وتتكاثر هذه النماذج وتتسع دائرة نشاطها ، لتجد فيما بينها روابط قوية يتم رسمها بتعاون مستغرب ، وكأن هؤلاء الأفراد يشمون روائح بعضهم بعضاً فيتقاربون ويطرحون أنفسهم مخلصين يمتلكون الحقيقة المطلقة ويتكلمون بها ويصدرون أحكامهم القطعية دون أن يرف لهم جفن من خجل أو حياء.
وترى المبدعين العارفين يتواضعون خجلاً يشككون في رؤاهم ويقدّمون معارفهم وعلومهم على افتراض أنها موضوعات تحتمل الحقيقة ، ولكن لا جزم بها بالمطلق ، فأي لون يفصل تلك النماذج ؟
وأي مجهودات تربوية ونفسية نحتاج لبناء الشخصية المتوازنة المتعلمة والراغبة في استمرار التعلم حتى آخر العمر .