باريس- صلاح سرميني:
السورية رباب مرهج، عندما شاهدتُ فيلمها السابق “الوجه الأول ..أمي”، قلتُ في نفسي: هذه مخرجةٌ سوريةٌ جديدة، ومُجدّدة، ومليئة بالتحديّ، وإن أكملت مسيرتها الإخراحية بهذا النفس التجريبيّ التدميريّ لأعراف السينما التقليدية، الروائية، والتسجيلية السائدة في سينمانا المُسترخيّة، فسوف يكون لها شأن عظيم في السينما السورية، والعربية.
وها أنا أشاهد فيلمها القصير “عنها”، ويتأكّد لي بأنها أكثر مما توقعتُ بقليل، هي بالأحرى مخرجةٌ سكنتها جنيةٌ طيّبة، وحوّلتها إلى ساحرةٍ لطيفةٍ معاصرة، وعلى الرغم من ذلك، سوف تُرعب البعض الغارق في سينما الحكايات المُستقيمة، وتُدهش آخرين بفيلمٍ هبط على السينما السورية مثل مركبة فضائية تحمل في داخلها كائناتٍ مسرحية مختلطة من الواقع، والخيال.
ينتشرون في مدينة رمادية، يمثلون، ويرقصون، ويغنون، ويناجون بعضهم، ويضحكون، ويبكون، ويحبّون، ويكرهون…بأقنعةٍ، وبدون أقنعة، بألوانٍ، وبدون ألوان، بأصواتٍ، وبدون أصوات…
“آه” الأخيرة لن تُنسيك هذا الفيلم الغرائبيّ، وسوف تهزّ المتفرج الغارق في سينما حكائيّة تقليدية مسيطرة، وتُخلخلُ قناعاته.
“عنها”، ومنذ اليوم، يُعتبر علامةً فارقةً في الأفلام السورية القصيرة تُحسب بثمنٍ غالٍ للمخرجة، وللمؤسّسة العامة للسينما في سورية.
رباب مرهج كان عليها أن تكون كاتبة حكايات استرجاعية، وكان عليها أن تكون شاعرةً تُضمّن بعضاً من ماضيها، وحاضرها في أبيات قصائدها، وكان عليها أن تكون مخرجةً مسرحية تتلاعب بالمنصة كما تشاء، وكان عليها أن تكون عرافة تلفّ شوارع مدينتها بفستانٍ أزرق، وكان عليها أن تكون معجبة بفلليني حدّ المنام، وكان عليها أن تكون عاشقة لبريخت، وكان عليها أن تكون واحدةً من شخصيات صمويل بيكيت، وتنتظر جودو…
كان عليها أن تكون، …أو لا تكون.
ولكنها، وبقدرة مخرجة سمحت لها موهبتها الفطرية، التلقائية أن تتخلى عن كل ما يُمكن أن تتلقاه من دروسٍ أكاديمية في مدرسة، أو معهد سينما، وتجمع كل “ما كان عليها”، وتحتفظ بـ “عنها” فقط، وتنجز فيلماً قصيراً تمزج فيه ما بين الشخصيّ، والعام، الداخل، والخارج، المُضمر، والمباشر، الداكن، والمضيء، وتنسج أحداثاً مستعارة من الذاكرة، والنسيان، وتحرّك شخصياتٍ حقيقية، وحلمية، وتحوّل وسط مدينة دمشق إلى منصة مسرح/شاشة سينما، ساحة حبّ، وكراهية، وفاء، وخيانة، سلم، وحرب..
في فيلم واحد، قصير، وقصير جداً، جمعت رباب مرهج، وبالآن ذاته، بعثرت بعضاً من خاصرتها المًتألمة، ووريدها النابضّ، ما فلتَ منها، وما لم يفلت: الحكاية، السيرك، المسرح، الفن التشكيلي، الشعر، الموسيقا، الغناء.
أصبح “عنها”، نموذجاً لفيلمٍ يجري المسرح في شرايينه/لقطاته، ومسرح تحوّلت منصته إلى شاشة، هذا المزج المعجون بالشعر الذي لا يقدر عليه إلاّ المسكون بجنيّة.
السينما السورية، وعلى الرغم من المعاناة التي تعيشها سورية، مازالت ولاّدة بالمواهب السينمائية.