يمن سليمان عباس:
تقدم الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة قراءات مهمة وخصبة في الموضوعات والمفاهيم التي تسود الساحة الثقافية والفكرية الآن.. ومن خلال كلمتها في مجلة المعرفة العدد الصادر حديثا تناقش مشوح جدلية العلاقة بين الثقافة والهوية وتقرأ حالات التمايز بينهما من خلال مناقشة ما قدمه بعض المنظرين في هذا المجال وتخلص إلى القول :
يدين مفهوم «الثَّقافة» بالنجاح الباهر الذي حظي به إلى مفهوم آخر لا يقلُّ عنه ألقاً وانتشاراً، ألا وهو مفهوم «الهويَّة». وهو مفهوم ارتبط في مرحلة من مراحل تطوره التاريخي بمفهوم «الوعي الجمعي»، الذي أبرزه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركيم Emil Durkheim في مؤلفه «الانتحار» (1897)، حيث عرَّف «الوعي الجمعي» بأنه مجموعة المفاهيم والقيم والثوابت والمشاعر المعقدة وغير المحددة التي تغذي الفكر الجمعي؛ وهو سابق في وجوده لوعي الفرد، ومصدر من مصادر تكوينه الذهني ومنظومته القيمية، وهو الذي يحقِّق، بحسب دوركيم، التماسك الاجتماعي، ويشكِّل مكوناً أساسياً من مكونات الهويَّة الثقافية.
هذا الترابط بين مفهومي «الهويَّة» و«الثَّقافة» بلغ مع الوقت مبلغ العلاقة التلازمية التبادلية؛ بل وصل حدٍّ التماهي عند البعض. وكثر الحديث عن وجود «أزمة هويَّة» كلّّما لاحت في الأفق معالم أزمة ثقافية. وهذا ما لاحظناه عند عدد من أصحاب الفكر والقلم ممن يؤثر تضخيم الأمور بردِّ الأزمات الثقافية، التي يمكن أن تنشأ هنا أو هناك في ظروف موضوعية معينة، إلى وجود «أزمة هويَّة»، بدلاً من النظر في جوهر الأزمة وتحليل منشئها وأسبابها الحقيقية.
يتساءل دونيس كوش في كتابه «مفهوم الهويَّة في العلوم الاجتماعية» فيما إذا كان الربط بين المفهومين من نتائج الهيمنة السياسية التي تُفرض على الشعوب، وشكلاً من أشكال العولمة بشقَّيها الاقتصادي والثقافي. وهذا تساؤل يستحق التوقف عنده، والتمعن في أبعاده وعمق مقاصده.
ما تزال أسئلة كثيرة تطال جوهر المفاهيم المرتبطة بالهويَّة، أحدها، وربما أكثرها إلحاحاً، يتناول طبيعة الصلة بين «الثَّقافة» و«الهويَّة الثقافية». لا شك في أنَّ المفهومين يسيران في خطين متلازمين متكاملين، لكنهما غير متطابقين، وينبغي الحذر من الخلط بينهما. فمن سمات الهويَّة الثقافية أنها حصيلة موروث معقَّد مركَّب من العناصر التاريخية والحضارية واللغوية والدينية والفكرية المترسخة في النفس السابقة للفرد، والملازمة له لا إرادياً أينما حلَّ. الثبات والديمومة إحدى سماتها، والشعور بالانتماء إلى الجماعة أحد تجلياتها. أمَّا الثَّقافة، فهي حصيلة المعرفة التي يكتسبها المرء مع الزمن في مختلف المجالات وبمختلف الطرق والوسائل. من سماتها التجدُّد وأنها عرضة للتبدُّل والتغير. الهويَّة الثقافية تبدأ من الجماعة، وتنتقل إلى الفرد وتطبعه بطابعها، بينما الثَّقافة تبدأ من الفرد ويمكن أن تؤثر في الجماعة ولاحقاً وعلى مدى تراكمي أبعد، في هويتها الثقافية، وإلَّا ضاق نطاقها وانحصر في الذات، فغدت ثَّقافة نخبوية فردانية.).
هذا وكان العدد الجديد /712 – 713 كانون الثاني، شباط 2023/ من مجلة “المعرفة”، قد صدر إضافة الى
(الثقافة والهوية، السيدة وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوّح – نقرأ ايضا مستقبل الذكاء… وأسئلة الثقافة، رئيس التحرير د. فايز الداية – الصورة في نصوص غادة السمان الغنائية، د.رتيبة موقّع – من إشكاليات أدب الأطفال، د. ميساء زهير ناجي – الإشارة، د.وفيق سليطين – مدينة الخلاص المنسية، د.طالب عمران – اسقِ العطاش… التداول المعاصر للنص والموسيقا، منى تاجو – جيمس ويب وعين من ذهب ترقب بداية الكون، محمد مجد الصاري – المال ضد الشعوب، وفاء حمود…) وغيرها من الموضوعات، إلى جانب “كتاب المعرفة الشهري” الذي يحمل عنوان (“حكايات من شكسبير”، ترجمة: الشريف خاطر)، اختيار وتقديم: د. فايز الداية.
لوحة الغلاف: من أعمال الفنان السوري غسان السباعي
السابق
التالي