رغم تجاوزه المائة عام ونيف من العمر لازال من وصف بأنه ثعلب السياسة الأميركية البروفيسور هنري كيسنجر اليهودي الألماني الذي هاجر إلى أميركا مع أسرته بعد الحرب العالمية الثانية والذي شغل مناصب حساسة في الإدارة الأميركية إبان ولاية الرئيس ريتشارد نيكسون من عام 1968 وحتى 1974 وأكملها مع الرئيس جيرالد فورد حتى عام 1976 بعد استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون في آب 1974على خلفية فضيحة ووترغيت ومنها مستشار الأمن القومي ووزيراً للخارجية لا زال هذا العجوز الداهية يعمل على خدمة بلده أميركا فنراه في بكين يلتقي رئيس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان وثاني أكبر اقتصاد واعد وهو الرئيس شي جين بينغ وقادة في الحزب الشيوعي الصيني وأهم الباحثين في مراكز الأبحاث والدراسات وراسمي السياسة الخارجية الصينية يستمعون إلى وجهة نظره ورؤاه للعلاقة الصينية الأميركية وضرورة التعاون بين أكبر قطبين اقتصاديين في العالم إضافة لاستماعه لآرائهم حول تلك المسألة التي يبدو أن الكل حريص على عدم وصولها إلى حالة الصدام العسكري.
إن ما يستوجب الوقوف عنده وتمثل معانيه هو الثقافة السياسية الأميركية المتعلقة في الاستفادة من النخب الفكرية والسياسية والعقول الاستراتيجية بعد انتهاء مهامها الوظيفية سواء كانت على مستوى الرئاسة أوعلى مستويات أخرى، فنرى الكثير من الساسة الأميركيين يقومون بأعمال تصب في خدمة بلدانهم ولا يتبرمون في حال تكليفهم بها، بل يكونون أكثر حماسة عند قيامهم بها ونذكر من هؤلاء الرئيس جيمي كارتر الذي بلغ المائة عام من العمر ولا زال يقوم بأعمال إنسانية وكذلك الرئيس اوباما ووزير خارجيته جون كيري وغيرهم الكثيرين، هذه الظاهرة السياسية الأميركية المتميزة لا تتوفر لدينا نحن العرب ومع الأسف فغالباً ما نجد المسؤول الذي تنتهي مهامه إما أن يتحول إلى حالة نقدية للأداء العام وكأنه كان خارج المسؤولية أو بالعكس يهمش دوره بالكامل ولا تتم الاستفادة من خبرته وطاقته وإمكانية الاستفادة من تجربته وفي ذلك من وجهة نظري خسارة كبيرة وتبديد للطاقات الوطنية التي يجب الاستفادة منها وتوظيفها بما يخدم المصلحة الوطنية وهذا حق للدولة وواجب على المسؤول الذي انتهت مهامه الوظيفية.
إن خلافنا السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية لا يمنعنا من الإشارة إلى ما هو إيجابي في ثقافتها السياسية ومنها الاستفادة من الكوادر والنخب على كافة المستويات وأيضاً شعور السياسي الأميركي بالمسؤولية الوطنية سواء كان في دائرة الفعل أو خارجها وهذا يعكس حالة الانتماء لأميركا الوطن وليس نظام الحكم سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً فالوطن شيئ والنظام السياسي شيئ آخر ولا تماه بينهما وهو عكس ما نراه في بلداننا العربية فالخلاف السياسي مع السلطة أو معارضتها يتحول عند البعض إلى خلاف مع الوطن بل وتآمر عليه فيتحول إلى معارض لدولته ووطنه لا نظام الحكم فيها وهذه طامة ومأساة كبرى وإشكالية يجب معالجتها من جذورها وهذا يتعلق بمسألة الانتماء والهوية وسلوك النظام السياسي.
إن انتهاء المهمة السياسية أو الوظيفية يجب أن لايعني انتهاء الدور وثمة فرق بين الموقع والمنصب والمكان والمكانة فالمنصب يتغير بطبيعته بينما الموقع ثابت الموقع الوطني والموقع الاجتماعي والسياسي يمارسه الشخص المنتمي حقيقة لا ادعاءً سواء كان في دائرة المسؤولية أو خارجها وفي ذلك اختبار للوطنية والانتماء الصادق.
إن المثال الأميركي الذي أشرنا إليه وهو هنري كيسنجر لا يخرج عن الحالة التي أود الإشارة إليها فهذا السياسي المخضرم لعب دوراً كبيراً في خدمة بلاده وكذلك “إسرائيل” بوصفه يهودياً أميركياً فهو من ساهم في إنهاء القطيعة بين بكين وواشنطن وزار الصين عام 1972 والتقى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وكان الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية واحتلالها مقعدها في مجلس الأمن عضو دائم بدل تايوان وكان له دور كبير في إنقاذ الكيان الصهيوني من هزيمة كبرى في حرب تشرين عام 1973، وهو من ساهم في الوصول إلى اتفاقية وقف إطلاق النار بين سورية وإسرائيل في هضبة الجولان عام 1974 في زياراته المكوكية كما رافق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في زيارته لدمشق ولقائه الرئيس الراحل حافظ الأسد في حزيران 1974 وعودة العلاقات السياسية بين سورية وأميركا والتفاؤل الذي رافق ذلك ولكن سرعان ما تلاشى بعد استقالة نيكسون بعد ذلك بأقل من شهرين على خلفية فضيحة ووتر غيت وتنصت الحزب الجمهوري على مكاتب الحزب الديمقراطي إبان الحملة الانتخابية الأميركية عام 1972 ولا ننسى دور كيسنجر في إعادة العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس المصري أنور السادات ما مهد لاحقاً في اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل عام 1979 علماً أن عرابها كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر.
إن ما يهمنا في هذا المقام هو أهمية وضرورة الاستفادة من العقل الوطني المبدع والاستثمار في بنك العقول وليس الإعجاب بالسياسة الأميركية التي هي في خط المواجهة معنا.