د. محمد الحوراني:
إذا كانت الحروبُ العسكريةُ تتسم بالعنف وإشعال النيران وتدمير البنيان، فإن الحروب الثقافية تتصف بالهدوء وعدم إثارة الضجيج حولها، إلا أنَّ خطورتها تفوق خطورة الحرب العسكرية، لجهة تصفيتها للعقول وتدمير الأخلاق والقيم ومحو الهوية الحضارية والثقافية للأمم المحارَبة، رغبةً من الدول المتزعمة للحروب العسكرية بأن تكون ثقافتها وقيمها هي المسيطرة على الأمم المراد استعمارها أو السيطرة عليها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو نهجٌ سارت عليه الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن الماضي في أثناء حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي وما زالت تسير عليها بأشكال مختلفة مع كثير من دول العالم التي لا تتفق معها، لا بل إن هذه الحروب الثقافية هي “حرب من أجل روح أمريكا” وفق رؤية “آندرو هارتمان” في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه.
وفي كتابها “من الذي دفع للزّمار؟ الحرب الباردة الثقافية” تتحدث الكاتبة البريطانية “فرانسيس ستونر سوندرز” عن آلية ظهور “منظمة الحرية الثقافية الأمريكية” وهي واحدة من أخطر المؤسسات التي أريد لها أن تكون الذراع الأكثر تأثيراً في تعزيز الهيمنة الثقافية الأمريكية في حربها على الثقافات الأخرى، وهي المنظمة التي كانت بمنزلة البوابة لتدخل المخابرات الأمريكية في الشأن الثقافي في كثير من دول العالم، ولا يخفى على كلّ متابع لهذا الأمر ما قام به “مايكل جوسيلسون” من جهود في هذا الجانب، فقد كان بمثابة العقل المدبر لحملة الدعاية الثقافية الأمريكية المناهضة والمعادية للسوفييت، ولم يقتصر على معاداة السوفييت بل استهدف كثيراً من الثقافات التي لا تدور في الفلك الأمريكي، فضلاً عن عمله مع مجموعة من الكتاب والإعلاميين والمثقفين القادرين على نقل سلاحهم من كتفٍ إلى آخر والمتلونين حسب الحاجة والطلب، ولهذا تمّ افتتاح مكاتب لمنظمة “الحرية الثقافية في أكثر من ثلاثين دولة على مستوى الوطن العربي والعالم كُلِّهِ، كما تم إنشاء مكاتب فرعية لمؤسسات تخدم الفكرة والتوجه الأمريكي المزعوم بشأن الحرية الثقافية، ومن هذه المؤسسات “روكفلر” و”كارنيجي” ومؤسسة “فرانكلين للطباعة والنشر” والحقيقة أن هذه المؤسسات قامت بدور كبير في ضرب كثير من الثقافات التي لا تتقاطع مع الرؤية الأمريكية، كما قامت بإصدار المجلات والدوريات التي تسير في هذا الفلك خدمة لمشروعها الهادف إلى تزييف الوعي والقضاء على المبادئ والقيم الثقافية عند الآخرين، إضافة إلى إقامة المعارض والحفلات الفنية، وتنظيم المؤتمرات وتقديم المنح الدراسية والتعليمية، وإقامة الجوائز للمثقفين والموسيقيين والفنانين، وهو ما اشتغل عليه بشكل فاعل وأداره بعناية فائقة “مايكل جوسيلسون”.
وإذا كانت مراكزُ الأبحاثِ والدراساتِ، وبعضُ المجلات والدوريات مثل “أنكاونتر” هي السلاحَ الأمريكيَّ الفعالَ في الحرب الثقافية الباردة قبل عقدين أو أكثر من الزمن، فإن ثمة أدوات ووسائل حديثة تستخدم اليوم في الحرب الثقافية على الأمم الخارجة عن الإرادة الأمريكية، ومن هذه الأدوات الفضائيات المبرمجة، والمواقع والصفحات الموجهة إلى الشباب والمتخصصة بتسطيح ثقافتهم وتزييف وعيهم، فضلاً عن مجلات ودوريات الـ “أونلاين” أو الورقية التي تقوم بتسويق كتّاب وكاتبات لا علاقة لهم بالثقافة والفكر والانتماء، مقدِّمةً لهم شهاداتِ الدكتوراه الفخرية المزيّفة، وهو ما يدخل في صميم الحرب الثقافية وتجهيل أبناء الأمم التي يراد لها أن تكون خاضعة للإرادة الأمريكية خصوصاً والغربية الاستعمارية عموماً.
ولا يقتصر العمل على تشويه الثقافة الأصيلة والنيل منها، على مؤسسات ثقافية غربية مشبوهة، أو مجلات ودوريات أسّست لاختراق العقول وضرب الجسد الثقافي، وإنما تعدتها إلى منظمات يبدو من خلال اسمها أن لا علاقة لها بالعمل الثقافي مثل: منظمة التجارة العالمية W.T.O التي أسّست عام 1995 وكان من صميم برنامجها مبدأ الحرية الثقافية، أي حرية الإنسان، في أي مكان في تعاطي ما يريده وما يرغبه من ألوان الثقافة من دون خطر رقابي من حكومته.
مما تقدم يمكننا القول: إن الحرب الثقافية ما زالت مستمرةً بأشكالٍ شتَّى وطُرُقٍ مختلفة، وهذا لا يعني على الإطلاق القبول بنظرية المؤامرة، وإلقاء أخطائنا عليها، وصرف الأنظار عن السلبيات في مجتمعاتنا وهي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ومن الطبيعي أن يستفيد خصومنا من سلبياتنا لتنفيذ ما يرغبون، وبالتالي يمكننا القول: إنّنا أسهمنا بشكل فعَّال في مساعدة عدوّنا للنيل من مجتمعاتنا وضرب عوامل وحدتنا، بسبب تراجع التركيز على الوعي الثقافي والمعرفي عند شعوبنا، وإهمالنا لهويتنا الثقافية وثقافة الانتماء.