كان أستاذي واثق رسول آغا الأستاذ في قسم الجيولوجيا بكلية العلوم بجامعة دمشق عصامياً متمسكاً برسالة التعليم، منصهراً بها، ومصراً على الالتزام بتفاصيلها إلى أبعد حد، لدرجة أنه لا يمكن أن يتعاطف مع ابنه الوحيد في مساعدته بجزء من العلامة ولو كان يتوقف عليها مصيره.
تلك ثقافة، وسلوك سائد في تلك المرحلة، الأمر الذي نفتقده اليوم في حياتنا الدراسية، فضلاً عن العلاقة التي كانت تربط الأستاذ بالطالب، فهي لم تكن تتجاوز حدود اللقاء في المدرج أو القاعة أو المختبر، أما الزيارات والمراجعات والأسئلة، فكانت خارج المتعارف عليه، فيما عدا علاقات بسيطة ومحدودة تفرضها شروط وظروف غير اعتيادية، لدرجة أنه أخبرني قبل عدة أشهر بأنه على مدى ثمانية وأربعين عاماً من التدريس في الجامعة ربطته علاقات شخصية مع أربعة طلاب فقط، كنت أنا واحداً منهم.
والأصل في هذه العلاقة ارتبط بالنشاطات الحزبية والسياسية التي أفضت إلى لقاءات خارج حدود الجامعة كانت المطاعم والبيوت والمنازل ميدانها، إذ كانت مدارات البحث والحوار وربما وضع بعض الخطط ومداورة الأفكار هي عوامل تقوية تلك العلاقة التي لم تنقطع قط، وإن باعدت مسافات السفر بيننا حيناً، فإنها حافظت على أصالتها ومتانتها حتى اللحظة.
ونحن إن كنا نبحث ونناقش في جميع المجالات، فإن ذلك لم ينعكس لحظة على وضعي الدراسي، إذ إنني طالبه في السنة الرابعة، وله مادتان، في الفصل الأول يعطي مادة الهيدروجيولوجيا بقسميها النظري والعملي في المختبر، ونجحت فيها بعلامة عالية، وفي الفصل الدراسي الثاني كان يدرس مادة الجيوكهربائية (٢) وهي مادة صعبة وفيها الكثير من المعادلات الفيزيائية المعقدة، وعلى الرغم من حصولي على درجة عالية في الجزء العملي، والتي كان يعطينا إياها مدرس آخر، فإنني رسبت في الجزء النظري، وكان مجموع علامتي الكاملة ٤٤ درجة فقط، وتلك كانت علامة على بعد درجة واحدة فقط من تغيير وضع الطالب، ترفعاً أو نجاحاً أو تخرجاً.
ولأن عددنا كان محدوداً، فقد كان من السهل على الأساتذة معرفة صاحب الورقة الامتحانية بسهولة، إضافة إلى أنهم كانوا يتابعون طلابهم وقت الامتحان ويقفون على إجاباتهم، ويومها وقف بجانبي يحرك رأسه يميناً وشمالاً أسفاً على ضعفي وجهلي وعدم معرفتي، متمتماً بكلمات لا أسمعها، وأظنها، لا حول ولا قوة إلا بالله،
وكانت النتيجة الرسوب المعروف، ولأننا على علاقة شخصية فقد كانت الترضية دعوة على الغداء بصحبة عدد من الأساتذة ممن سبق لهم تدريسي في الكلية.
وعلى الغداء احتج أستاذ كبير عليه لعدم مساعدتي في علامة واحدة كانت تعني تخرجي، واصفاً إياه بأنه لا ينسجم مع الوضع العام ومع مستوى العلاقات التي تربطنا كمجموعة، فأجاب بكلمات بقيت راسخة في مخيلتي حتى الآن، لا تغادرني أبداً:
إذا كان محيطي كما برميل القاذورات، هل ينبغي أن أغوص فيه لأكون منسجماً مع المحيط ؟!
تلك الجملة لازمتني حياتي العملية كلها، وإن كنت لم أستطع الالتزام بها كاملة، إلا أنني حافظت عليها بما يخصني شخصياً.
لم تنته القصة، ففي الفصل الأول من العام التالي كانت نفس النتيجة، لكن الفصل الثاني حمل البشرى والحل والنجاح بعلامة عالية. فقد سافر إلى ألمانيا الغربية آنذاك لتقديم مشورة علمية في مؤتمر علمي يتعلق بالوضع المائي في العالم، وقام بتكليف طالبه السابق الدكتور رغدان العظم رحمه الله ليعطي محاضرة بدلاً منه خلال أسبوع تغيبه، وحتى لا يخسر الطلاب محاضرة، ولأننا على معرفة بسلوكه وآلية تفكيره فقد كان من المؤكد أنه سيقرر سؤالاً من تلك المحاضرة، وهنا موضع الحل والخلاص فقد كان السؤال بالعلامة الكبيرة (لحساب عزم أحادي القطب) ذي المعادلات الطويلة والمعقدة والموسوم بخمسة وثلاثين درجة من أصل خمسة وسبعين درجة، وعندما وقف بجانبي كما المرات السابقة، رفع صوته قائلاً:
ها قد تخرجت ! وأضاف ضاحكاً:
نحن على موعد مع دعوة غداء على حسابك.
فأجبته بخبث منتصر:
لن تحلم بها، فلا فضل لك بنجاحي.
ضحك ومشى مزهواً فرحاً، يروي لأصدقائنا الحادثة ومذكراً بحفلتي الغداء اللتين دعا مجموعة معي ليواسيني على رسوبي، ورفضي رد واحدة منها وأنا الناجح بعلامة عالية جداً بمجهودي الشخصي، لأفاجىء الجميع في دعوة لاحقة بأنني كنت على معرفة أكيدة بأهم سؤال امتحاني، وكانت تلك المعرفة تبلغ حد اليقين لأنني أعرف تماماً كيف يتصرف وكيف يخطط.
مضت الأيام، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً التقينا أمام باب الجامعة وأنا في عجلة من أمري للحاق بمحاضرة لطلاب السنة الثالثة بكلية الإعلام لمادة تحرير مواد الرأي، فأراد التحدث معي مطولاً لكنني قاطعته بأنني لا أريد أن أصل متأخراً عن المحاضرة قائلاً: ذاك ما زرعت بي، أو جزء مما زرعت فتحمل نتائج سلوكك المضني والصعب، لكنه الجميل.
ومضيت إلى مهمتي بكثير من المشاعر المتناقضة ما بين الفرح والألم، لكنه الثبات.