الثورة- رفاه الدروبي :
ولجنا بيت التراث الفلسطيني لموسى أحمد علي المُلقَّب «أبو الرائد» في مخيم جرمانا، وجلنا مملكته التراثية في بيته الصغير عبر دهليز طويل زيَّن جدرانه بأطباق القش المختلفة القياسات وأدوات تحميص القهوة والغربال كي يُوثِّق تراث بلده، ونهاية الدهليز غرفة وضع في مقدّمتها حفنات من التراب المقدسي في صندوق زجاحي أغلقه بإحكام ووظف سطح منزله بطريقة جميلة مبهجة كي يعرض بقية مقتنياته بينما يفصل جسر المتحلق الشمالي في دمشق عند مخيم جرمانا بين مملكتي بيتي التراث المتجاورين لأبي علي جابر وأبي الرائد.
هُجِّرت عائلته من منطقة الحولة شمال فلسطين المحتلة، المحاذية للحدود اللبنانية، إنّها إصبع الجليل، تبعد مسافة ٢٧كم عن مدينة صفد القريبة شمالاً، والسمة الغالبة عليه أنَّه رجل مكافح عرف كيف يُنمِّي مشروعه الوطني بامتياز حسب أقواله لإحياء التراث الفلسطيني وحمايته من الاندثار ونقله للأجيال في زمنٍ يتوجّه نحو الحداثة فيقوم بالتذكير لعدم غضِّ الطرف عنه والاهتمام به، وفي الوقت نفسه سلاح لمواجهة عدو ليس غاشم فحسب بل يستغلُّ كلَّ شيء حتى اللهجة والأزياء والنباتات وأنواع المطرزات لروايته الكاذبة، لذا لابدَّ من المحافظة على التراث العابق برائحة الأصالة والتمسُّك به وإحيائه بتفاصيله الدقيقة.
صاحب بيت التراث أشار بأنَّه جمع كلَّ ما يخصُّ بلاده من أزياء ومقتنيات نحاسية مُستخدمة في المطبخ كالملاعق والقدور والصحون وأواني المضافة وتشمل مصبَّات القهوة المُرَّة ومناقل الفحم، بينما تربَّعت إلى جانبها أنواع عدة من الأدوات الفخارية كانت تستعمل لتبريد المياه وحفظ المخللات وغيرها وحتى جرّات تخزين العسل.
وأضاف: إنَّه جمع الأدوات الزراعية المستخدمة كالفأس والمنجل والغرابيل بأنواعها والفوانيس لإنارة الأمكنة والأثاث المنزلي وخاصة البسط العائدة حياكتها لقرنٍ ونيِّف من سنة ١٩١٨، ويمكن معرفة مصداقية تراثيتها من أسماء العائلات المصنّعة لها من النقوش والرسوم الخاصة المنسوجة ضمن خيوطها أثناء حياكتها لتمييزها وتخصيصها عن المناطق الأخرى كون التراث الفلسطيني يتشابه مع المدن الشامية.
وأكَّد موسى أحمد علي على مشاركته في أغلب معارض التراث وأهمّها كانت في معرض دمشق الدولي بدورته الستين عام ٢٠١٩ ليكون أول افتتاح بعد توقفه بسبب الأحداث السورية ووجدها فرصة سانحة للرد على إعلان مايسمى القدس عاصمة للكيان الصهيوني كما عرض مقتنيات في معرض خصصه بالهواء الطلق ضمن أزقة الحارات المجاورة لمنزله إذ علقها على جدران البيوت وأبوابها ووزع المناضد على طول الدروب والأزقة ليقدِّم تراثه غير القابل لوضعه على الجدران عبر مشروع نفَّذه وفق أسس منهجية تعتمد على إبراز تراث بلده.
بدوره أكَّد بأنَّ عائلته كانت سنداً له في استمرار شغفه بجمع التراث وعرضه، مقدِّمين الدعم الكامل من وسائط نقل وترتيب المكان وتأمين الضيافة اللازمة للزوار في كافة المعارض، واعتبره مشروع مقاومة لشعب يختلف عن باقي شعوب الأرض، «فالصهيونية» اختارت البلد الغلط عندما سرقت أرضاً وأطلقت مقولة في سبعينات القرن الماضي: «الكبار يموتون والصغار ينسون» لكن غاب عن خلدهم بأنَّ عشق فلسطين يسري في الدم الجاري بالعروق، فالأم تودِّع شهيداً وتحمل ولداً في بطنها.
ثم أردف مُقدِّماً قصصاً شتى عن التراث اللامادي وأهمّها تشريبة القهوة المرّة لديه، وبأنَّها لم تنقطع أبداً منذ ستة عقود مضت وحتى الآن، والتشريبة أخذت من آخر مصب قهوة أعدَّ في فلسطين يوم تمَّ تهجيرهم بالقوة، وتُغلى بعد زيادتها بالمياه ووضع القهوة فوقها من جديد، وكلّ مصب يؤخذ منه لتجديد القهوة لتعود داخل فناجين تدور بين الضيوف أثناء الزيارات، مُنتقلاً إلى ماحفطته ذاكرته الوقَّادة من والده عندما هُجِّروا من فلسطين وكأنَّ شريط الذكريات يستيقظ أبداً في مخيلته يرويها لنا عن أبيه عندما جهَّز جدَّه حفرة الكلس واضعاً المادة فيها كي ترقد ويُهيِّئه لطلاء المنزل.
هُجِّرت العائلة وحفرة الكلس بقيت مكشوفة ليتذكَّر الجدُّ بأنَّه تركها عرضةً لتساقط الأوراق والغبار فطلب من فلذات كبده العودة لتغطيتها خشية فساد الخلطة ورغم صعوبة الموقف وتأجيج نارالأحداث عاد الأولاد بناءً على طلب أبيهم وأغلقوا الحفرة أملاً بالعودة بعد يومين لكنَّ فراق الحبيبة طال ومرَّت عقود من الأسى والمرارة على بلد هُجِّروا منه وبيت بنوه من الحجر الأسود، ومازال «أبو الرائد» الحفيد مُحتفظاً بمفتاح بيت جدِّه الأصفر حتى الآن وضعه أمام أعيننا والدمع محتبسٌ في مقلتيه على وشك الهطول.